سورية: في البحث عن اليقين أو الخلاص منه

11 ديسمبر 2024
+ الخط -

في كتابه المعنون ﺑ"البحث عن اليقين"، ينتقد جون ديوي الفلاسفة الذين يسعون إلى اليقين المطلق والمتمثّل في حقائق سرمدية وثابتة لا يطاولها التغيير من أيّ من جهاتها، وتعبّر عن واقعٍ مطلقٍ وثابتٍ ونهائي، من وجهة نظرهم. إذ ينفي ديوي وجود مثل هذه الحقائق وذلك الواقع، ويرى أنّ بحث هؤلاء الفلاسفة عن اليقين هو هروب من صيرورة الواقع المتغيّرة التي لا تتيح إلا امتلاك معارف جزئيةٍ ونسبيةٍ. ولعلّ هذا الأمر ينطبق في مجالاتِ الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، كما ينطبق انطباقًا خاصًا وكبيرًا في مجال التوقّعات في المجالات المذكورة. فإنّ امتلاك الإنسان للحريّة ومعرفته بمثل تلك التوقّعات ووعيه المتغيّر يجعله قادرًا على تغيير توجّهاته المستقبلية وإحداث قطائع، جزئية على الأقل، مع ماضيه وحاضره. وفي كلّ الأحوال، يبقى المستقبل، عمومًا موضع ترجيحات واحتمالات ومُمكنات متعدّدةٍ ومتنوّعةٍ إلى درجة التضاد أو التناقض في ما بينها.

هذا الميل إلى الأحكام الدوغمائية اليقينية المطلقة موجود ليس عند الفلاسفة فحسب، بل هو اتجاهٌ منتشرٌ لدى كثيرين، وقد ظهر ظهورًا بارزًا وطريفًا في الأيّام الأخيرة، لدى كثيرين من المثقفين السوريين وغير السوريين. فثمّة من (كان) ينتقد أيّ عملٍ مسلّح ضدّ النظام السوري الساقط، ويرى أنّه انطلاقًا من موازين القوى، لا يمكن إسقاط النظام بالقوّة، وكان يجزم بأنّ نهاية أيّ حراكٍ عسكريٍّ وخيمةٌ وفاشلةٌ بالضرورة. وبقي على موقفه إلى أن سقط النظام، ثم تبنى سريعًا موقفًا آخر مناقضًا للموقف الأوّل، من دون أن يقلّ يقينًا ودوغمائيةً عنه. وثمّة من (كان) يجزم بأنّ إسقاط النظام الأسدي سيفضي إلى حربٍ أهلية لا محالة، وإلى استبدادٍ إسلاميٍّ استبداديٍ، بالتأكيد. وتبدو هذه التوقّعات أشبه بالتنبؤات، من ناحيةٍ أولى، لأنّها لا تستند إلى ما يسندها معرفيًّا ويسوّغ اليقين الجازم والقاطع الذي يتم التعبير به عنها. وتبدو، من ناحيةٍ ثانيةٍ، أشبه بالأماني، لأنّها تعبّر عن التوجّهات الأيديولوجية لأصحابها ورغبتهم في أن يتسق الواقع مع تلك الأيديولوجيات. وإذا كان الخطأ بالمعنى الديكارتي يتمثّل في تجاوز الإرادة لمعطيات الإدراك و/ أو العقل، فإنّ الخطأ الذي يرتكبه الأشخاص المذكورون، يعبّر عن إرادتهم التي تتنكر حتى لمعطيات إدراكهم وعقلهم. وهذا التنكّر أو التجاوز مرتبطٌ أو متسقٌ مع رغبتهم في أن يكون الواقع متسقًا مع انحيازاتهم الأيديولوجية، بدلًا من أن يقوموا بتعديل أحكامهم المعرفية لتتسق مع المعطيات التي يملكونها وحدود الأحكام المعرفية التي يمكن أن يطلقوها في هذا المجال.

عاث النظام السوري فساداً وخراباً في الدولة والمجتمع.. إلى درجةٍ لم يعد من الممكن احتمالها أو ينبغي عدم احتمالها ومحاولة التخلّص من مسبّبها في أسرع وقتٍ ممكنٍ

ما يجهله أو يتجاهله أصحاب اليقين المذكور أنّ ثمّة يقينًا آخر كان يهرب منه السوريون الثائرون على النظام، ويتمثّل ذلك اليقين في أنّ ذلك النظام قد عاث فسادًا وخرابًا في الدولة والمجتمع، وفي السياسة والاقتصاد، وفي القمع الأمني وعمليات الاعتقال والقتل والتعذيب، إلى درجةٍ لم يعد من الممكن احتمالها أو ينبغي عدم احتمالها ومحاولة التخلّص من مسبّبها في أسرع وقتٍ ممكنٍ. اليقين الذي كان يودّ الثائرون التخلّص منه هو ذاك البارز في خطابات النظام الأسدي وممارساته في أنّه سيبقى حاكمًا مطلقًا في سورية إلى الأبد. والتخلّص من ذلك اليقين لم يكن، عمومًا وغالبًا، لصالح تبني يقينٍ آخر، وإنّما هو خلق ممكناتٍ جديدةٍ لم يكن لها أن توجد من دون التخلّص من اليقين الأسدي الأحادي والقاتل لأيّ إمكانيّةِ تغيير إيجابي مهم وحقيقي في سورية، دولةً ومجتمعًا.

يمكن للأحكام اليقينية الدوغمائية أن تظهر في كثير من التحليلات الأيديولوجية الاستراتيجية اللاإنسانية. وثمّة أيديولوجيون إنسانيون إلى درجة أنّهم يكرهون كلّ البشر، لأنهم لا يطابقون مفاهيمهم أو أحكامهم المعيارية أو الأيديولوجية عن ماهية أو طبيعة الإنسان أو ما ينبغي له أن يكونه. وثمّة منظورات مهنية أيديولوجية قد تجعل صاحبها ينسى إنسانيّة الإنسان الذي يتعامل معه، ووجوب التعامل الإنساني المناسب مع الإنسان الآخر. وأذكر، في هذا السياق، أنّني سمعت أحد الأطباء يتحدّث لزميله الطبيب عن اكتشافه اليوم لحالة مريضٍ بالسرطان وكيف كان ذلك السرطان منتشرًا بطريقةٍ مميّزةٍ وكبيرةٍ في جسد ذلك المريض المسكين. كان يتحدّث عن الفائدة المعرفية والمهنية التي تحصّل عليها من خلال اكتشافه للحالة المذكورة، لكنّني شعرت بحزنٍ شديدٍ، وصدمةٍ أكبر، لأنني لم أرَ في حديث الطبيب المذكور أيّ شعورٍ بالأسى على مريضه الذي يعاني من السرطان المذكور. لكن الرؤية المهنية المحضة قد تفقد الإنسان بعضًا من إنسانيّته.

المهم عند البعض أن ينتصر خياره الأيديولوجي في النهاية، حتى لو كان على حساب الملايين ممّن يفترض أنه يسعى إلى تحقيق مصالحهم وتطلّعاتهم في حياةٍ كريمةٍ

تذكرت هذه الحالة كثيرًا لاحقًا، ووجدتها شبيهةً بمواقف وتحليلات أيديولوجيةٍ كثيرةٍ. وأذكر أنّ أحد اليساريين الألمان كان يأمل أن يفوز اليمين في الانتخابات الأميركية ليتخذ ذلك اليمين إجراءات قاسيةٍ بحقّ ملايين العمال والمهاجرين وأصحاب الطبقتين الوسطى والفقيرة، لأنّ ذلك يمكن أن يهيّئ الجو، من وجهة نظره، لثورةٍ أو تغييراتٍ جذريةٍ تطيح باليمين المذكور وتجعله يفقد الكثير من أسهمه. ولم يكترث ذلك اليساري إلى أنّه يتمنى أن يتعرّض ملايين الأشخاص للأذى والضرر الذي سيترك أثرًا سلبيًّا كبيرًا على عوائلهم وأطفالهم. فالمهم عنده أن ينتصر خياره الأيديولوجي في النهاية، حتى لو كان على حساب الملايين ممّن يفترض أنه يسعى إلى تحقيق مصالحهم وتطلّعاتهم في حياةٍ كريمةٍ.

حصل أمرٌ مشابهٌ في الفترة الأخيرة. ففي التحليلات الجيو-استراتيجية للكثير من الفقهاء والخبراء السياسيين والمتحزبين أو المتخندقين الأيديولوجيين والمحلّلين المتحلّلين من أيّ رؤيةٍ إنسانيةٍ، جرى تقييم الحراك الشعبي و/ أو العسكري ضدّ النظام السوري، من منظور مصالح وتوجّهات هذه الدولة أو تلك (تركيا وإيران وأميركا وروسيا وإسرائيل... إلخ) ومن منظور علمانية أو إسلامية، أو (عدم) مقاومة و(عدم) ممانعة، النظام ومعارضيه، من دون الاكتراث (كثيرًا) بما يعنيه هذا الحراك لملايين من السوريات والسوريين النازحين من مدنهم وقراهم أو الذين عانوا، وما زالوا يعانون، معاناةً شديدةً، من هذا النظام. فمن وجهة نظر كثيرين، يكفي أن يكون النظام مقاومًا وممانعًا لكي يكونوا معه، ويعترضوا على أيّ معارضةٍ له، بغضّ النظر عن استبداده، أو مع النظر إلى ذلك الاستبداد، وعلى الرغم منه. وليس نادرًا أن تكون الأيديولوجيات التي يتبناها هؤلاء الأشخاص مليئةً بالقيم الإنسانية والانهمام بمصالح البشر ومعاناتهم، لكن النظرة الكليّة المتعالية لهذه الأيدولوجيات تجعل البشر، في منظورها أو تنظيرها، مجرّد براغٍ في آلةٍ ضخمةٍ ينبغي لها أن تسير في الاتجاه المرغوب فيه، مهما كلّف الأمر. ولهذا تجدهم يطلقون علينا أحكامهم اليقينية المطلقة، رشًا ودراكًا، من دون شفقةٍ أو رحمةٍ، ومع لامبالاةٍ شديدةٍ تجاه البشر المعنيين بتلك الاحكام، والذين لا يكونون، من منظور تلك الأيديولوجيات، سوى جزء من مواضيع التفكير، وليسوا ذواتًا إنسانيةً ينبغي أخذ ذاتيتها وإنسانيتها في الحسبان.

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".