شعب غزة
تَراه في التظاهرات التي ملأت شوارع العالم في الأسابيع الماضية. في تلك الحشود، أينما كان، على سطح هذا الكوكب المريض. شعب غزّة لا يحمل جنسية بعينها، هو شعب يحدّد ضميره انتماءه إلى الإنسانية: شعب من الأصحاء، من كلّ لون وعرق وجنس وعمر. أصحاب الضمير ممن أبوا البقاء ساكنين أمام هذه الإبادة المهولة. هم شعب غزّة اليوم، وقد يكونوا شعب مكان آخر، حيث تتعرّض الإنسانية للظلم، أو أكثر، مما تعرّضت له غزّة.
من أينما كانوا، وإلى أينما انتموا في الجغرافيا واللغة، هم وحدهم من ابتردت لرؤيتهم قلوبنا المكسورة الخائبة الأمل بالإنسانية. منهم من استفاق للتو من سبات طويل غرق فيه على وقع هدهدة أكاذيب حكومته وحليفتها إسرائيل، تلك الأكذوبة المتنكرة بلبوس الحقائق لأكثر من خمسة وسبعين عاماً. ومنهم من لم تغمض لضميره عين أبداً، لكنه لم يعد اليوم وحيداً في الشوارع متهماً باللغة الخشبية، منبوذاً وملاحقاً. شعب غزة اليوم هو شعب قديم. كانوا شعب فيتنام تارة، وكانوا شعب الجزائر تارة أخرى، وشعب "صبرا وشاتيلا" حين احتاجهم المقتولون ظلماً.
واليوم، أخرجتهم غزّة بدمائها التي سالت أنهاراً إلى الشوارع ليصرخوا بكلّ اللغات "لا" ضخمة، واضحة، هائلة، أمام هذه الجنازة المهولة المستمرة التي لا تشبع. والتي فرضتها إسرائيل المريضة بجنون العظمة، على الكوكب لأسابيع، ولم تكتفِ. كان عدوان إسرائيل بتفاصيله الرهيبة عدواناً صريحاً ومباشراً على كلّ بيت فيه إنسان على هذا الكوكب.
هم شعب غزّة، ولو لم يحملوا جنسية فلسطين. فقضية فلسطين هوية تلقائية وجدانية وإيديولوجية لكلّ من وقف إلى جانب الحق بالرغم من كلّ الضغوط والدعاية المضلّلة وترهيب الآراء. هم في كلّ مكان: لاحقتهم الشرطة والمحاكم ووسائل الإعلام المنحازة للصهاينة دون أن تستطيع ردعهم. طرد بعضهم من عمله، وقُوطع غيره أو هُدّد حتى بالسكاكين، لكنهم، بشجاعة، لم يتراجعوا. فالصورة التي واصلت الوصول إلى بيوتهم لأكثر من أربع وأربعين يوماً، معتدية على إنسانيتهم، وأخلاقهم، وجوهر كينونتهم كبشر متحضرين أصابتهم بالذهول، بعدم التصديق، بفزع مروّع في أن يكونوا جزءًا من هذا الذي يستمر بالحصول أمامهم بالصورة والصوت دون أن يظهر له أفق نهاية.
شطرت غزة الكوكب بوضوح لم يسبق له مثيل، إلّا ربّما في حرب فيتنام، قسمته إلى عالمين: عالم الشعوب وعالم الحكّام. لم يسبق للمشهد أن كان واضحاً لهذه الدرجة.
شطرت غزة الكوكب بوضوح لم يسبق له مثيل، إلّا ربّما في حرب فيتنام، قسمته إلى عالمين: عالم الشعوب وعالم الحكّام. لم يسبق للمشهد أن كان واضحاً لهذه الدرجة
مدريد، التي صار مشهد "غارنيكا" الإسبانية جزءاً يسيراً من "غارنيكا" غزّة، طالبت بوقف فوري لإطلاق النار وأعلنت وقف التعامل مع إسرائيل على وقع تظاهر مئات الآلاف. لندن التي اجتاحت شوارعها تظاهرة مليونيه لم يُر لها مثيل منذ عشرات السنين، بدت واقفة في وجه حكومتها اليمينية التي ارتقت مواقفها إلى درجة التواطؤ والدعم لمجرمي الحروب. أمّا حزب العمال البريطاني المعارض؟ فقد اجتاحته موجة من الاستقالات بعد موقف رئيسه، كير ستارمر، الذي برّر قطع الماء والكهرباء والدواء عن غزّة.
ماليزيا اجتاحتها تظاهرة ضخمة تعدّ بمئات الآلاف، طالبت الدول الإسلامية والعربية بوقف التطبيع وبالتدخل لوقف إبادة المدنيين. أميركيون يهاجمون مقر الحزب الديموقراطي، حزب الرئيس جو بايدن، في الولايات المتحدة الأميركية، ويقتحمونه غاضبين، ومطالبين بوقف لإطلاق النار. أميركيون آخرون اكتشفوا مذهولين، أنّهم لا يستطيعون مقاطعة أو انتقاد إسرائيل في العديد من الولايات الأميركية كما في ولاية تكساس، وذلك بموجب قانون معاداة السامية!
فتقت غزة جروحاً التأمت على زغل للسكان الأصليين في أميركا والمكسيك وكندا وأستراليا، أي حيث جرت مذابح للشعوب الأصلية في القرون الماضية من أجل استيطان المستعمرين. مواطنون في الدول الداعمة لإسرائيل أعربوا عن غضبهم بفيديوهات اجتاحت "إنستغرام" و"تيك توك"، لاستخدام أموالهم كدافعي ضرائب، لتزويد إسرائيل بالأسلحة والمعدّات التي تعينها في ارتكاب إبادة بحق الشعب الفلسطيني. بدأ الناس يقولون عن "حماس" إنّها حركة تحرّر برغم وجهها المتديّن. بدأوا يفهمون أنّ قضية فلسطين ليست قضية صراع أديان كما صُوّر لهم، وإن اتخذت مقاومة غزة اليوم هذا اللبوس المتناسب مع الممكن في هذه المرحلة من تاريخ القضية. بدأوا يستوعبون أنّ حركة "حماس" هي المضاد الحيوي الذي أفرزه جسم فلسطين لإحياء جسد المقاومة الفلسطينية المعتل بالانقسام واليأس، بعد ما أجهز العدو وحلفاؤه على كلّ الأشكال الأخرى الممكنة من النضال، على أمل في تسوية عادلة بالحدّ الأدنى. قضية فلسطين قضية تحرّر، فهم الناس، وحماس حركة تحرّر. هكذا قال مواطنو الكوكب ذوي الضمائر الحية. هكذا قال شعب غزّة.
حركة "حماس" هي المضاد الحيوي الذي أفرزه جسم فلسطين لإحياء جسد المقاومة الفلسطينية المعتل بالانقسام واليأس
لقد ربحت فلسطين المعركة الإعلامية، بثمن باهظ ورهيب وثقيل الوطء، لا شك. لكنها ربحت.
كيف سيكون اليوم التالي لغزّة؟
ليس سهلًا التنبؤ، لكن شرخاً كبيراً ارتسم بين الشعوب والحكّام في العالم. مواطنون كثر يشعرون اليوم بالخديعة. كثيرون أيضاً فقدوا ثقتهم بحكامهم المنتخبين وبسياسات دولهم. أمّا أولئك الذين لم تنتخبهم شعوبهم، فهم اضطروا لتقديم مواقف بالحدّ الأدنى، تُنفّس بعض الشيء عن غضب شعوبهم منهم، خاصة في موضوع التطبيع مع الكيان الدخيل.
كيف سيتطوّر الأمر في كلّ بلد على حدّة؟ خاصة في البلدان المتواطئة حكوماتها مع إسرائيل؟ لا أعلم. لكن شيئًا ما قد حدث، ولا تراجع عنه. لقد ربحت فلسطين هذه الجولة.
أمّا بالنسبة لنا في اليوم التالي لغزّة؟ أرى أنّه علينا أن نقوم تماماً بما فعله ضحايا المحرقة النازية على مدى عقود وبصبر وعناد: التوثيق، المناصرة والملاحقة. تلخص هذه المفردات الثلاث واجبنا لكيلا يفلت أيّ مجرم ارتكب ما رأيناه في غزّة، وقبلها في فلسطين، من العقاب.
لقد ربحت فلسطين المعركة الإعلامية، بثمن باهظ ورهيب وثقيل الوطء، لا شك. لكنها ربحت
فليكن هناك تنسيق بين مختلف الجهات لتجميع أسماء كلّ الضحايا وصورهم، فردًا فردًا. وإحصاء الجرائم المرتكبة بحقهم وتصنيفها، وقبل كلّ شيء السعي للحصول على أسماء مرتكبيها إن أمكن، وإلا فأسماء المسؤولين عن القرار بارتكابها وهم أصبحوا معلنون ومعروفون بغالبيتهم.
تشجيع الضحايا الشهود على الإدلاء بشهاداتهم، ولو بشكل سرّي لمن قد يتعرضون من بينهم للأذى، وتزويد "جيش المحامين" بقيادة الفرنسي جيل دوفير، المتطوّع لملاحقة إسرائيل في المحاكم الدولية، بكلّ الوثائق وتوفير المساعدة له ولجيشه القانوني في كلّ بلد.
كلّ جندي، وضابط، وقائد سياسي، أو عسكري أو أمني أعطى أوامر إبادة، أو صوّت لصالح إقرارها، أو سن قوانين تشرّعها، سيلاحق مدى الحياة هو وعائلته أينما كانوا ومهما طال الزمن، تماما كما فعل صائدو النازية لعقود وعقود، وسيبذل كلّ جهد لمحاكمتهم أمام الرأي العام العالمي.
أمّا الأسرع حاليا؟ فوضع لائحة عار بأسمائهم، وملاحقتهم، إعلامياً على الأقل، أينما ولوا وجوههم القبيحة إن كان على وسائل التواصل أو الشاشات. وهذه هي المهمة التي يجب أن يتنكب القيام بها اليوم شعب غزّة.