شهادة غريبة على عصر أغرب (3/5)
يتحدث محمود جامع في كتاب (عرفت السادات) عن شخصية أخرى من نجوم عصر السادات هي محمد عثمان إسماعيل محافظ أسيوط الذي اشترك في رعاية ودعم الجماعات الإسلامية بأسيوط بأمر مباشر من السادات الذي كان يعتبر محمد عثمان إسماعيل بمثابة ابنه الأكبر طبقاً لما قاله لجامع، لكن المحير كما يقول جامع أن محمد عثمان إسماعيل لم يحصل على منصب أعلى من منصب محافظ أسيوط، وهو ما يقول إنه مصير كل الذين ساعدوا السادات ووقفوا معه، فلم يصمدوا في المناصب الرفيعة التي أوكلت إليهم، وسقط بعضهم سقوطاً مدوياً مثل الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري الذي لعب دوراً محورياً في إطاحة السادات بمراكز القوى الناصرية، والذي غضب عليه السادات ـ كما يقول محمود جامع ـ لأنه استولى على شقة في عمارة ليبون بالزمالك ولأنه دخل على السادات ذات مرة وهو حاسر الرأس وبغير "قايش" عسكري على وسطه، فاعتبر السادات ذلك استهانة به وغضب عليه بشدة.
ولكي ينفي محمود جامع وجود شعور بالمرارة لديه لأنه لم يحصل على منصب رفيع في عهد السادات، يسارع للتأكيد على أنه لم يسع أبداُ لمنصب وابتعد عن احتراف السياسة، واكتفى بمساندة السادات في اتصالاته بالإخوان المسلمين والتي يقول إنها بدأت من طرف السادات الذي أرسل جامع إلى المرشد العام للإخوان المسلمين عمر التلمساني، ليطلب منه وقوف الإخوان إلى جواره في الفترة التي أعقبت إطاحته برجال عبد الناصر واستعداده للحرب مع إسرائيل، فأبلغه التلمساني مساندة الإخوان الكاملة للسادات، وهو ما أثار ارتياح السادات ورفع روحه المعنوية، ويبالغ محمود جامع في وصف تأثير ذلك فيقول إنه كان من العوامل التي جعلت السادات يدخل حرب أكتوبر واثقاً من تماسك الجبهة الداخلية.
نعود إلى علاقة السادات بمحمد حسنين هيكل التي تحدث عنها محمود جامع في أكثر من موضع قائلاً إن السادات كان إذا سمع اسم هيكل في الفترة التي تصاعدت فيها خلافاتهما، كان يقول بسرعة: "هيكل نعم.. هيكلية لأ"، وهو تعبير كان قد صكه الدكتور علي السمان في عهد عبد الناصر، كتفسير منه لقيام عبد الناصر باعتقال الدكتور جمال العطيفي أحد كتاب الأهرام الكبار والذي تولى الوزارة في عهد السادات، وقد أعجب السادات بالتعبير وظل يردده حتى بعد أن أطاح بهيكل من قلعته الحصينة في صحيفة (الأهرام).
من التفاصيل المثيرة التي يرويها محمود جامع قوله إن السادات رشّح ذات مرة الشيخ محمد متولي الشعراوي ليكون شيخاً للأزهر، وكلف الدكتور فؤاد محيي الدين رئيس الوزراء بإبلاغه
يرى محمود جامع أن موقف هيكل من الثغرة في حرب أكتوبر هو الذي أغضب السادات، وأنه استدعى هيكل ليسأله عن بعض ما بلغه عنه، فادعى هيكل أن حسين الشافعي هو الذي قال التعبير الذي أغضب السادات وهو أن "الثغرة تحولت من جيب إلى كرش"، أما ما عجل بخروج هيكل من الأهرام كما يروي محمود جامع فهو أن هيكل سأل وزير الخارجية محمود رياض عمن حضر اجتماع السادات مع هنري كيسنجر، فأجابه محمود رياض بأنه كان اجتماعاً ثنائياً مغلقاً، فضرب هيكل على المائدة بيده قائلاً: "أنا قلت الريس ما يقعدش لوحده"، ووصلت العبارة إلى السادات عن طريق أشرف مروان فقال السادات بغضب شديد: "أنا أقعد لوحدي زي ما أنا عاوز، ولازم هيكل يعرف أن عهد التلقين انتهى"، لكن محمود جامع يعود ليحكي عن وجود محاولات للصلح بين السادات وهيكل كادت أن تنجح لولا أن موسى صبري ومصطفى أمين نجحا في إفسادها ليتم توجيه الضربة الأخيرة إلى هيكل الذي لا يخفي محمود جامع كراهيته له، ويروي عنه واقعة غريبة يقول إنها دارت في منزل الدكتور علي السمان، حضرها الدكاترة مصطفى الفقي وعلي الدين هلال وحسام عيسى وجمال بدوي ومنصور حسن، وحين دار نقاش بين محمود جامع وهيكل عن الشيخ حسن البنا، ففوجئ جامع بهجوم هيكل على حسن البنا وقوله عنه إنه "مدرس إلزامي جاهل إرهابي"، وأوصاف أخرى استغرب أن تصدر عن كاتب ومثقف مثل هيكل.
في تفسيره لتحولات شخصية أنور السادات من الهدوء والدهاء المربكين لخصومه إلى الانفعال الحاد والعنيف، يرى الدكتور محمود جامع في كتابه (عرفت السادات) أن انتصار أكتوبر 1973 أذهل السادات وجعله أكثر نرجسية وكبراً، فلم يعد يطيق اختلاف أحد معه في الرأي، ويرى أن المشير محمد عبد الغني الجمسي أحد أبطال حرب أكتوبر كان ضحية من ضحايا تسلط السادات ونرجسيته المتضخمة ـ بتعبير جامع ـ لأن السادات رأى أن الجمسي يعامل رجاله في القوات المسلحة بشدة قد تكون زائدة عن الحد، وقام بتحذير الجمسي من ذلك، وحين لم يستجب الجمسي أقاله السادات، وعامله معاملة غير كريمة حين تم اختيار تاريخ لإقالته يسبق العرض العسكري الذي كان الجمسي هو الذي دعا ضيوفه البارزين، وإن كان السادات قد أنكر مسئوليته عن اختيار التوقيت، بعد أن انتشرت أخبار عن المعاملة غير اللائقة التي لقيها الجمسي والتي وصلت إلى حد تقطيع أسلاك التليفون في منزله وسحب سيارات الحراسة وكشك الحراسة، وهو ما نفى السادات أن يكون قد تم بتعليمات منه.
تحدث محمود جامع أيضاً عن الصراعات التي نشبت بين جيهان السادات وعثمان أحمد عثمان، الذي يصفه جامع بأنه كان يتحسس من كل من يتقرب إلى السادات خاصة منصور حسن الذي بزغ نجمه لفترة قصيرة، ويقول إن جيهان السادات كانت تميل إلى التعامل مع صهرها سيد مرعي أكثر من ميلها إلى صهرها عثمان أحمد عثمان، وحدثت بينها وبين عثمان أزمات كثيرة أشهرها تلك التي حدثت بسبب تدخل عثمان أحمد عثمان في سير حوار صحفي كان السادات يجريه مع صحفي أجنبي أحضره له أنيس منصور، ووصل الأمر إلى حد منعها لعثمان من حضور تسجيل بقية الحديث وهو ما أغضب عثمان جداً وطلب من السادات أن يتدخل، لكن السادات لم يتدخل لأنه اعتبر الأمر صغيراً حسب ما قاله لجامع.
القاضي الذي حاكم عصمت السادات كان شقيقه قد تقدم في وقت ما لإحدى بنات السادات، ورفضه السادات، فظل القاضي يحملها في قلبه حتى وجدها فرصة للتهجم على أنور السادات وأسرته من خلال قضية فساد عصمت السادات التي أدانه القاضي فيها
يروي محمود جامع أن عصمت السادات شقيق الرئيس والذي يصفه بأنه "كان قادراً على تحويل التراب إلى ذهب" تلقى هدية عبارة عن يخت من الملياردير الشهير أوناسيس، وهي هدية لم تكن لوجه الله بالطبع، بل لمساعدته على تخليص مصالحه في مصر، وخشي عصمت من إحضار اليخت إلى مصر، لأن أصدقاءه حذروه من أن السادات سوف يصادره منه ويستولي عليه، والغريب أن محمود جامع يدافع عن عصمت السادات ضد اتهاماته بالفساد والكسب غير المشروع، طالباً من الذين هاجموا عصمت أن يسألوا قبل ذلك عن ثروات أقارب الرؤساء السابقين، ثم يذكر معلومة خطيرة تشكك في نزاهة القضاء، وهي أن القاضي الذي حاكم عصمت السادات كان شقيقه قد تقدم في وقت ما لإحدى بنات السادات، ورفضه السادات، فظل القاضي يحملها في قلبه حتى وجدها فرصة للتهجم على أنور السادات وأسرته من خلال قضية فساد عصمت السادات التي أدانه القاضي فيها، ويزعم محمود جامع أنه حين أخبر الدكتور فتحي والي محامي عصمت بتلك الواقعة، ندم على أنه لم يقم بإخباره بها أثناء نظر القضية، لأن هذه المعلومة كان يمكن أن تستخدم في الدفاع عن عصمت السادات.
في موضع آخر من الكتاب ينفي محمود جامع ما أثير بقوة عن تدخل جيهان السادات المباشر في أدق شئون الحكم، لكنه يناقض نفسه حين يقول في مواضع أخرى إنها كانت تحب أن تكون على علم بما يجري في البلد وبمن سوف يستقبلهم الرئيس، وكان فوزي عبد الحافظ سكرتير السادات يرضي غرور جيهان ويشبع رغبتها في معرفة كل ما يفعله زوجها، فكان يقدم لها تقريراً يومياً وافياً عن كل شيء يحدث في مؤسسة الرئاسة، ويقول جامع إنه نصح السادات بأن يقلل من اتساع النشاط الاجتماعي للسيدة جيهان، وتقبل السادات هذه النصيحة بشكل جيد، ووعده بتنفيذها لكنه لم يقم بذلك في الفترة التي أعقبت مصرعه.
يؤكد محمود جامع أن الثقة الكبيرة التي حصل عليها السادات بعد حرب أكتوبر جعلته يصاب بغرور قاتل واستبداد في الرأي، فأصبح لا يقبل مع مرور الوقت أي مشورة من أقرب الناس إليه، وكان يفعل ذلك حتى مع صهريه عثمان أحمد عثمان وسيد مرعي، وقد صارح السادات جامع بأن في قلبه غصة دائمة من سيد مرعي لأنه كان قد اتفق مع محمد حسنين هيكل على تولية زكريا محيي الدين رئيساً للجمهورية بعد عبد الناصر، ويرى جامع أن حديث السادات عن الديمقراطية والتعددية الحزبية كان وراءه رغبة بالتلويح للغرب بورقة الديمقراطية، وأنه حين سأل السادات مرة: هل تريد أحزابا حقيقية أم ديكور؟، فابتسم السادات ابتسامة ساخرة يقول جامع إنه فهم منها أن السادات يريد الديكور الحزبي فقط لا غير.
طبقا لشهادة محمود جامع، كانت انتفاضة 18 و19 يناير 1977 من أهم الأحداث التي أثرت بشكل سلبي على أنور السادات وزادت من عصبيته وحدته وعدم ثقته فيمن حوله، خاصة أن بعض الوزراء تركوا بيوتهم وهربوا منها بعد أن أصيبوا بالفزع وتخيلوا حدوث ثورة شعبية شاملة في البلد، وحين طلب السادات من رئيس الوزراء أن يأمر القوات المسلحة بالتدخل رفض المشير محمد عبد الغني الجمسي ذلك الطلب وأصر على أن يتلقى أمراً كتابياً موقعاً من الرئيس أو رئيس الوزراء، ورفض رئيس الوزراء التوقيع على هذا الطلب، كما رفض نائب الرئيس حسني مبارك تحمل مسئولية نزول الجيش إلى الشارع.
من التفاصيل المثيرة التي يرويها محمود جامع قوله إن السادات رشّح ذات مرة الشيخ محمد متولي الشعراوي ليكون شيخاً للأزهر، وكلف الدكتور فؤاد محيي الدين رئيس الوزراء بإبلاغه، لكن فؤاد محيي الدين لم يبلغ الشعراوي بذلك الترشيح لشيء في نفسه لا يعلمه أحد، مضيفاً أن جيهان السادات لم تكن تستريح للشعراوي، خاصة بعد أن دعته خلال توليه منصب وزير الأوقاف لإلقاء محاضرة لسيدات مصر الجديدة، فانسحب من القاعة حين وجد الجالسات جميعاً غير محجبات، فغضبت جيهان وقالت لمحمود جامع: "بلغه أني حاشيله من الوزارة"، وهو تهديد يقول محمود جامع إن الشعراوي لم يهتم به.
يروي محمود جامع أيضاً أن السادات حين استفحل نفوذ الجماعات الإسلامية المتشددة التي دعمها في البدء لضرب اليساريين والناصريين، قام باستدعاء توفيق عويضة الذي كان السادات قد فصله من المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وكلفه بتشكيل جماعات تقوم بمحاصرة وتحجيم نفوذ الجماعات الإسلامية، ليبدأ إنشاء ما يسمى (معسكرات أبو بكر الصديق الصيفية) والتي كانت نفقاتها تأتي من ميزانية خاصة يشرف عليها السادات، وكان السادات حريصاً على زيارة شباب المعسكرات وتلبية كل مطالبهم، لكن تلك المحاولة لم يكتب لها النجاح الشعبي، ولم تستمر. وفي موضع آخر يروي محمود جامع أن السادات بعد أن انتهى شهر العسل بينه وبين الإخوان وبدأ صدامه معهم، حاول استرضاء مرشدهم العام عمر التلمساني بتعيينه في مجلس الشورى، لكن التلمساني رفض التعيين، وهو ما أغضب السادات، كما رفض الإخوان اقتراح محمود جامع بإنشاء حزب مدني لا يحمل اسم الإخوان، على أن ينضم محمود جامع إلى عضويته بوصفه عضو مجلس شورى، لكن الإخوان رفضوا ذلك الاقتراح، لتتصاعد مواجهتهم مع السادات.
...
نكمل غداً بإذن الله.