صداقة المال
كنتُ بحثت مطولاً عن الصديق الذي يُمكن الاعتماد عليه، والإصغاء إلى نصائحه، وآمن جانبه، ويكون بالنسبة لي الصديق الخليّ من الغش والتدليس والخداع، والتعامل معه بدفء واحترام وتقدير، إلا أنني لم أصل إلى قناعة طوال تلك الفترة الزمنية التي قضيتها من العمر.
من النادر أن تجد أمثال هذا الصديق، أو بالكاد يمكن الالتقاء بذلك الإنسان الواعي، الصادق الأمين الذي يحفظ الود ويصونه ويقدس العلاقة كما هو مرسوم لها.
في المكان الذي أعيش، في الغربة، وفي المكان الذي ولدت فيه وقضيت فيه فترة مُبعدة، وجدت ذلك الصديق الأمين، ولكن يشوبه كثير من الملاحظات، وإن كانت في أغلبها إيجابية وبحاجة إلى إعادة غربلة وتدوير.
كان هناك عدد من الأصدقاء، منهم من كانوا أصدقاء طفولة ومدرسة، ومنهم ـ في ما بعد ـ من كانوا أصدقاء "حَجَرة واحدة"، أي جار قريب من سكان الحارة التي أقيم فيها، أو في العمل، ومنهم من كانوا أقارب من الحلقة الثانية إلا أنّ العلاقة بهم كانت سطحية، تخلو من أي احتكاك. وفي المدرسة تعدّدت الصداقات وتنوعت وما أكثرها، إلا أن أغلبها كان خارج الزمن.. بقيت العلاقة سطحية ضمن إطار المدرسة.
في العمل، وبعد أن مضى قطار العمر، تعرفت إلى شرائح من الناس لهم ثقافاتهم وأماكنهم الوظيفية، ومنهم من كان يشتغل مديراً لإحدى المديريات الحكومية، وآخرون من العاملين في سلك التعليم المتوسط، ومنهم من ارتقى السلم بالالتحاق بالتدريس الجامعي، وغيرهم من العاملين في الدولة في أعمال ووظائف مختلفة. فضلاً عن الأصدقاء والزملاء العاملين في مهنة صاحبة الجلالة التي عشقناها وانخرطنا في البحث عن المتاعب التي كثيراً ما كانت تشغلنا.
تطورت علاقتي مع زملاء المهنة، إلّا أنّ أغلبهم كانت علاقتي معهم محدودة وظلت مقيدة باشتراطات. لم تتطور علاقات الصداقة مع زملاء المهنة وإنما ظلت فاترة، وأكثر ما كانت مرتبطة بالعمل ولم تتقدم، لا سيما، وكما ذكرت، أنّها كانت تقوم على المصلحة ومدى ارتباطنا مع بعض سواء في العمل أو خارجه. ومع مرور الزمن، وبعد أن غادرت سورية باتجاه الولايات المتحدة الأميركية، وبعد قضاء سنوات، فضلت العودة إلى النمسا والعيش فيها إلى جانب الأسرة، وهذا يعني أن العلاقة مع الأصدقاء صارت مقطوعة تماماً بسبب بعد المسافات.
ظلّت أغلب العلاقات القديمة مع الزملاء والأصدقاء، التي كانت تربطنا، فيها كثيرٌ من التردد، ومنها ما انقطع بصورة نهائية مع تقادم الأيام، وإن وجدت أي علاقة، فإن المال من أسهم في عودة الرابطة إلى الوجود بعد انقطاع طويل. العلاقات المادية هي من كانت ترسم شكل ولون تلك العلاقة.. فبقدر ما كان ذلك الصديق، القابع في الوطن، يطلب مبلغاً من المال لجهة مساعدته نتيجة الظروف التي يعاني منها، بقدر ما يكون راضياً عنك وقريباً منك ويتواصل معك وبكل حب ما دمت أنت تغدق عليه المال، وبمجرد أن قطعت عنه المساعدة، ولم ترد على تلبية رغباته، أقام الدنيا ولم يقعدها، في حين أن ذلك الصديق، أو حتى القريب، لا يدرك أن أغلب اللاجئين الذين فروا من الأزمة الخانقة التي يعيشونها في الداخل السوري، وما تعرضوا له من قتل وتشريد وذل وإهانة، أن هؤلاء اللاجئين يعيشون على المساعدات التي تقدمها لهم الحكومات التي يقيمون على أراضيها، متناسين أنّ عليهم دفع مبالغ كبيرة لأجل تأمين معيشتهم. قائمة الاحتياجات والمطالب كثيرة، ولكن لا يعرف ذلك الصديق أو القريب أن ما يُعطى للاجئين من مساعدات مالية بالكاد تسدّ رمق أسرهم في ظل الغلاء المستشري الذي يعاني منه الجميع.
وفي ظل هذا، أصاب الصداقة كثير من الفتور، وأكثرهم من فضل قطع علاقاته عن التواصل بعد توقف الدعم المادي له، لا سيما أنّ التواصل معهم أصبح قائماً على مدى المساعدة التي تقدم لهم. هؤلاء الأصدقاء والأقارب لا يهمهم الحال الذي يعيشه اللاجئون في بلاد الاغتراب، يظنون أنهم يكنسون المال من الشوارع وما عليهم سوى تعبئته في خيش والعمل على إرساله لهم. هكذا يظنون، وعدم تلبية طلباتهم من قبل كثير منهم توقفت على أثره الصداقة وكأن شيئاً لم يكن!.
العلاقات في أغلبها ـ وللأسف ـ رابطها المال. توافر المال يعني الإبقاء على الصداقة حيّة قائمة، وفي حال توقف اغداق المال، وحتى في حال الاعتذار، فهذا يعني أنّ العلاقة أصابها كثير من السخط والحنق والزعل، إذا لم يتهموك بالكذب والخداع، وإذا لم تنته إلى أبعد من ذلك.