صراخ في الطائرة
لا تكتفي الأنظمة القمعية باعتقال شعبها داخل الحدود بل تطارده إلى خارجها، ومهما حاول هذا الشعب أن يتحايل على القمع، أو أن يجد لنفسه متنفساً بشتى السبل وبأقل سقف ممكن، أو حاول بعض أفراده الخروج والهروب من الوطن الذي لم يعد يتسع لأنفاسهم، يأبى الزعيم ذلك، ويأمر بمطاردة الأفكار ووأد المحاولات وكتم الأنفاس وجلب كلّ الفارين من حظيرة الوطن.
ولأنّ الزعيم لا يعرف معنى المدنية، ولا تعرف أجهزته سوى المعالجات الأمنية لكلّ شيء، ليس بداية بتعليم الناس أنّ تعظيم حامل المسدس هو من ضرورات الوطنية، ولا مروراً بحضور الرئيس والعسكريين لاختبارات تعيين الموظفين المدنيين في الوظائف الحكومية لاختيارهم على أساس الولاء الأمني، ولا نهاية بأن يذهب الدبلوماسيون لدورات يحاضر فيها عسكريون عن حبّ الوطن.
هذه هي الجمهورية الجديدة التي يقولون عنها، ولكنها في الحقيقة جمهورية خوف، وشعبها خائف يترقب، في الداخل والخارج، والجميع في انتظار الفرج، وفرج لا يأتي إلا على شاكلة فيلم "الكرنك".
منذ بداية أغسطس/آب تمّ ترحيل عدد من المصريين المقيمين في الخارج إلى مصر. شاب درس وعاش وتزوّج في روسيا من 2015، وكان على وشك الحصول على الجنسية، ورجلا أعمال يحملان الجنسية التركية يعيشان في البحرين منذ ثماني سنوات بشكل قانوني، وشاب وصل حديثاً إلى ألمانيا. كلّ هؤلاء، وآخرون كثر، على مدار السنوات الماضية، تمّت مطاردتهم خارج مصر وإحضارهم إليها بالقوة الجبرية أو بالتواطؤ.
جمهورية خوف، شعبها خائف يترّقب في الداخل والخارج، والجميع في انتظار فرجٍ لا يأتي
"في طريق عودتي من فرانكفورت، معي على متن الطائرة شاب لاجئ مرحل يصرخ كلّ حين وآخر من الخوف". هكذا كتب أحد روّاد الرحلة العائدة إلى مصر على إحدى منصات التواصل الاجتماعي. لحظتها صفنت، وقفزت إلى مخيّلتي على الفور صورة الشاب محمد عبد الحفيظ، الذي سلمته تركيا إلى مصر قبل بضع سنوات، بكلّ الرعب والخوف في عينيه وهو مكبّل اليدين.
ماذا يريد النظام من الهاربين من جحيمه؟ ألم يكتف بما لديه من سجناء ومخفيين قسرياً وممنوعين من السفر؟ ألم تشبع غريزته السادية بعد؟
ثم لا يكتفي النظام باستردادهم، بل يحتجزهم ويُخفيهم قسرياً لفترة، ثم يظهرون في أحد السجون، أو يحوّلون إلى إحدى النيابات على ذمة قضايا، ناهيك عن التعذيب الذي يتعرّضون له خلال فترة إخفائهم.
أتخيّل نفسي لو كنت سجيناً في مصر، ثم خرجت بعد فترة، طويلة كانت أم قصيرة، ثم مُنعت من السفر، ثم حاولت الهروب ونجحت، وبعد أن وصلت إلى مكان آمن يحترم كرامتي، تُطاردني دولتي وتُطالب باستردادي، ثمّ تضعني مجبراً في طائرة، وطول الرحلة يسيطر الخوف عليّ، بعدما ظننت أنّي نجوت، ثم أصل إلى مطار الوطن، فتتلقفني أيادي أفراد جهاز أمني ما، ثم لا يكتفون بيدي المقيّدة بالأساور طوال الرحلة، فيقومون بوضع عصبة على عيني، ويضعوني في سيارة أمن، ويتحركون بي إلى القبو الأمني الذي سأختفي فيه، ثم أتعرّض للتعذيب والإهانة، هذا غير التفكير في أهلي، وهل سأخرج حيّاً من هنا أم لا؟
نريد فقط أن يكفّ الوطن أذاه وظلمه عن أبنائه في الداخل والخارج، وهنيئاً لكم اللجان والحوار والكراسي والمناصب
هل تخيّلت معي؟.. هذا التخيّل فقط يُصيبني بالقشعريرة، فأنا تعرّضت للاعتقال والسجن والتعذيب سابقاً في عهد المخلوع حسني مبارك، الذي كان نظامه يستجيب لبعض الضغوط ولا يتحلّى بسادية النظام الحالي، فما بالكم بمن يتعرّض لكلّ هذا من نظام جاء على دماء الناس.
ولكن لماذا أتخيّل، وقد تعرّض شقيقي الأصغر في إحدى المرّات إلى الترحيل والتسليم إلى مصر من الأردن الشقيق قبل حوالي عامين، وهو الذي كان قبلهما في السجن لقرابة العامين ونصف، وفي بداية هذه الفترة تعرّض للإخفاء القسري لحوالي أسبوعين.
ثم يأتي من يخرج علينا ويحدثنا عن انفراجة وحوار وطني ولجنة عفو وعودة للمنفيين. يا هؤلاء نحن لا نريد كلّ هذا، فقط أن يكف الوطن أذاه وظلمه عن أبنائه في الداخل والخارج، وهنيئاً لكم اللجان والحوار والكراسي والمناصب والشركات، وهنيئاً لكم الجمهورية الجديدة التي "ويكأن" بها حوار؟!
صوت صراخ الشاب الذي نقله إلينا أحد الذين كانوا على متن الطائرة، لا ينفك عن رأسي، محاولة التفكير في مصيره مرعبة. وعندما أحاول الهدوء تقفز إلى عيني صورة الخوف في عيني محمد عبد الحفيظ.
يا جمهورية "ويكأن" المحدودة للخوف.. كفى.