صرخة نملة!
شاهدتُ أحد تلك الفيديوهات التي تقتحم جوّالك دون استئذان ثم تسحبك إلى عالمها فإذا بالدقائق في غفلةٍ مرّتْ، وإذا بالمشاهد المتنوعة بسرعةٍ عدّتْ، تُسلّمك إحداها لأُخراها مرة ضاحكا ومرة مُشفِقا، تارةً تَعْجَبُ وطورا تغضب، لكأنها ترمي دفق مشاعرك المتداخلة والمتضاربة في خلاّط يهزّها وينفضها، يقطعها ويمزجها وقد ذهب بقوامها، فتتركك وقد غشّى الهزلُ حزنَك فأفقده فحواه، وأتْبَعَ الغضبَ فضولٌ أخمد لهيبَ ذكراه، وأقبلت عليك الأخبارُ والأذكار تسعى والألغازُ والأسرار تَتْرى، وصُبّت الإعلانات والوصفات صبا، وارتمت على أعتاب خيالك غوانٍ حِسان.. لتخرجَ إثر ذلك كله صِفرا بمعلومات منتوشة ومعرفةٍ مغشوشة، وبأحاسيس مكذوبة وأوقات مسلوبة!
في الحقيقة ترصد محركات البحث اهتماماتنا وكم نفني فيها من أوقات، لكأنها تقرأ ما يتخالج في الصدر ويتوارد فلا يخفى عنها منها شيء، ثم بعد ذلك الرصد والفرز تقوم بإرسال ما يثيرنا أو يلائمنا من الإعلانات والفيديوهات. فالإشهار والإعلان وما "وُضع" أمامك بعناية وعن دراية يعكس عادة أو "يفضح" ما تمضي فيه من حياتك قراءة أو كتابة أو تبحث عنه.
ذكرني ذلك بمن شكا لشيخه الحِرمان من رؤية الحبيب المصطفى في منامه كباقي أصحابه فأشار عليه الشيخ بالإكثار من شرب الماء المالح وامتثل الطالب ظنا أن في الملح حكمة.. حتى إذا كان الفجر سأله الشيخُ مستفسِرا: هه هل تم؟ فأجابه الطالبُ المريدُ خجلا أنه قضى ليلته لا يحلم إلا بالماء، فتبسم الشيخ قائلا: لو كان شوقُك للحبيبِ أشدَّ من شوقك للماء لسقاك الله ما تتمنى وأقرّ بالرؤية قلبك!
والشاهد أن ننظر لما يسترق نظرنا ويلتهم عمرنا وندمن فيه الأرق. أما الملح فكما نعلم جميعا لا يبقى من طعمه إلا العطش أو... الغرق!!
وربما يفسّر ذلك لكم همّي، ففي الفيديو الذي بادرتُ بالحديث عنه، يرسم أحدُهم بطبشورةٍ خطوطا للنمل فيقربها ولا يتعدّاها.. خطوطٌ تنجح في فصل سِرب النمل وسجنها داخل مجموعات تتخبّط، وتقترب النملة فيها من أختها من المجموعة الأخرى كأنها تبحث عن وصلها أو تستجيب لندائها وما إنْ تدنو منها وتلامس ذلك الخطَّ قرونُها حتى تَنْكِصَ فراراً كأنها من حتفٍ تفزع أو مُلئت منه رعبا. عجباً أهذا هو النمل الذي تُضرب بوحدته وجماعته ولانضباطه ودقته الأمثال؟ أمجرّد خطٍّ مرسوم فرّق طريقها وشتّت أمرها وجعلها تنكر بعضها بعضا؟ ها هي أصابعه تعود بينها جهرا بلا خفاء وبمزيدٍ من ألوانٍ جلبها وحدودٍ جديدة يرسّمها إلى دوائر أضيق يقسّمها ويخنقها. للنملةِ عيونٌ، فهل أصابها العمى؟ أم ما لها لا ترى ألاّ حائطَ يقف في وجهها أو بَيْنها وبين خلاصها سدّا؟
لكن أنّى تفهم النملة ذلك وهي تتكلم لغة غير لغتنا وتحلّل الأمورَ بغير طريقتنا؟!
النمل تتواصل فيما بينها باستخدام الأصوات وأساسا بالفِرمونات وهي كيماويات تساعدها لنقل الإشارة وتحديد المسارات وتنسيق حركتها
فالنمل تتواصل فيما بينها باستخدام الأصوات وأساسا بالفِيرمونات، وهي كيماويات تساعدها لنقل الإشارة وتحديد المسارات وتنسيق حركتها.. يستخدم النمل الفيرومونات ليس فقط لصنع المسارات بل لأكثر من ذلك. فالنملة المسحوقة ينبعث منها فيرومون إنذار يجلب النمل القريب إلى هجوم جنوني ويجذب المزيد من النمل من أماكن أبعد. حتى أن هناك أنواعا من النمل يستخدم "الفيرومونات الدعائية" لإرباك النمل العدو وجعلها تقاتل فيما بينها!
وفي مثل ذلك العالَم المحكوم بالروائح والكيماويات فإنّ تدخّل أي عنصر طارئ يحمل في طياته ما يصيب هذا التمييز والتواصل الكيميائي من شأنه أن يُحدث خللاً وإرباكا متفاوتاً قد لا يتجاوز التشويش والاضطراب اليسير، وقد يصل إلى شللٍ تام يصيب تلك المنظومة فتبدو وكأنها قد أصابها الجنون أو العمى!
وقد استغلّ الإنسان ذلك لصنع المبيدات القاتلة أو المسببة للعقم، فمن أين للنمل الغافل المسكين أن يعلم أنّ خط الطبشورة الذي يحده ويحاصره مقدمة لما هو أشنع في حقه وأفظع؟
فلا تقسو على النمل وتتهموه بالغباء لمجرد أن أحدهم استغل فطرته وتسلّل إلى لغته، ففي مناطق كثيرة وتواريخ بعيدة وقريبة جدا رأينا أحيانا قوما من جلدتنا يتكلمون لغتنا ويقفون على بُعد أمتار معدودة مدجّجين بالعتاد والعدّة التي يحتفظون بها ليومٍ أسود، يُشاهدون إخوتهم وأبناء عمومتهم يُحرقون أحياء.. ولا يجرؤون حتى على رشّ تلك النيران بالمياه فضلًا عن إسعافهم أو حمايتهم!
فلا تسأل عن ذلك اليوم الأسود وسَلْ ما الذي فعلته بنا تلك الخطوط العوجاء التي رسمها المستعمر الماكر ومضى؟ ربما كنا نحن أيضا ضحايا هرمونات.. ومجرد نمل أخرس!