صفحات من تاريخ معشوقة الشعوب وصديقة الطغاة!
في كتابه الممتع "أغرب الحكايات في تاريخ المونديال"، يروي الكاتب لوثيانو بيرنيكي كيف بدأت علاقة الطغاة بكأس العالم مبكراً، منذ أن ضغط نظام الديكتاتور بنيتو موسوليني على الفيفا من أجل أن تقوم إيطاليا بتنظيم البطولة في عام 1934، مستخدماً طرقاً ملتوية حتى لا يتعثر فريق إيطاليا في طريقه نحو اللقب، متصوراً أن تتويج إيطاليا باللقب سيخدم القضية الفاشية في أوروبا والعالم، ولذلك تم إجبار لاعبي المنتخب على الانضمام رسمياً إلى الحزب القومي الفاشي. وتلقوا تهديدات بالقتل إن فشلوا في الحصول على اللقب.
وإلى جانب "كأس جول ريميه"، تم إضافة لقب إضافي للمنتخب الفائز هو "الحاصل على كأس الدوتشي"، وتم إجبار جميع الفرق المشاركة على تنفيذ التحية الرومانية التي كانت مميزة عند كل من أدولف هتلر وموسوليني، والتي يتم فيها مدّ الذراع باتجاه الأمام وهي مستقيمة مع ميل إلى الأعلى. ولأن الفاشية كانت في ذروة صعودها في العالم، فقد وجدت إلى جوار المُجبَرين، متحمسين حباً وطواعية، مثل أعضاء البعثة الأرجنتينية الذين توجهوا فور وصولهم إلى إيطاليا لكي يضعوا إكليلاً من الزهور على مقبرة والدي الدوتشي موسوليني.
قبل أيام من انطلاق البطولة، اجتمع موسوليني بمدرب المنتخب الإيطالي فيتوريو بوتسو لتحذيره: "أنت المسؤول الوحيد عن النجاح، لكن ليكن الربك في عونك إذا انتهى الأمر بفشلك". وحين التقى الدوتشي بلاعبي الفريق قال محذراً: "إما الفوز أو الموت". وهو يمرر سبابته بعرض عنقه عبر حنجرته أثناء وليمة غداء، ليصل المعنى كاملاً لمن يتصور أنه كان يمزح أو يبالغ. لم يكتف موسوليني بتحذيراته خارج الملعب، فقد واصلها داخل الملعب، حين قام بعد نهاية الشوط الأول لأحد المباريات بالنهوض من مقعده في المقصورة والركض نحو غرفة ملابس المنتخب، ليواجه اللاعب مونتي بغضبه من قيامه بتوجيه الركلات إلى منافسيه داخل منطقة الجزاء، ويذكره بأنه أسقط لاعب تشيكوسلوفاكيا نييدلي داخل منطقة الجزاء. لكن الحكم "الطيب" الذي يتعاون مع إيطاليا لم يحتسب ركلة الجزاء، ثم حذره من تكرار فعلته، ليكون ذلك التصرف العجيب تأكيداً على جدية موسوليني في تهديداته للفريق إذا لم يحصل على الكأس، خصوصًا أنّه فعل كل ما بوسعه لدعم الفريق بعناصر الفوز. يكفي أنّه قام بتدعيم الفريق بأربعة لاعبين أرجنتينيين ولاعب برازيلي غيّر اسمه إلى اسم إيطالي، دون أن يجرؤ أحد على اعتراض مساعيه لإظهار القوة الفاشية للعالم بأكمله.
في كأس العالم التالي عام 1938 والذي أقيم في فرنسا، واصل موسوليني تسخير موارد الدولة الإيطالية لصالح المنتخب، حيث خصص طائرة تنقلهم من مدينة إلى أخرى، ليحظى اللاعبون بقدر أكبر من الراحة التي لم يكن يحظى بمثلها منافسوهم. لكنه في الوقت نفسه واصل تهديد عناصر الفريق ومدربه بالقتل إذا لم يعودوا إلى روما وهم يحملون الكأس، وأرسل تلغرافاً إلى معسكر الفريق في باريس تضمن ثلاث كلمات فقط: "الفوز أو الموت". ولم يكن اللاعبون بحاجة لتكرار إشارة الذبح التي لم تكن قد فارقت ذاكرتهم، ولا ذاكرة كل من سمع بالحكاية، لدرجة أنه حين خسرت المجر أمامهم في المباراة النهائية، قال الحارس المجري أنتال زابو: "لم أشعر في حياتي بمثل هذا القدر من السعادة بعد الخسارة، فبالأهداف الأربعة التي سجلوها في شباكي أنقذت حياة أحد عشر إنسانا".
كان نفس المونديال قد شهد مهزلة إجبار خمسة من لاعبي النمسا على تمثيل ألمانيا التي احتلت بلادهم، وإقرار الحكومة النازية لمجموعة قوانين تحرم الرياضيين اليهود من اللعب في أي مسابقة رياضية ومنعهم من تمثيل ألمانيا، التي نزل فريقها إلى مباريات كأس العالم واضعاً الصليب المعقوف على صدره ومُصدّراً للعالم صورة الفريق الذي لا يُهزم. ومع ذلك فقد تعثر وسقط أمام الفريق السويسري المتواضع.
وفي الوقت الذي توقف فيه المونديال طيلة اثني عشر عاماً بسبب الحرب العالمية الدامية، يحكي الكاتب الأوروجواني إدواردو غاليانو في كتابه البديع "كرة القدم في الشمس والظل" عن تهديد بالموت تم تنفيذه بالفعل بحق لاعبي فريق دينامو كييف، الذين اقترفوا في عام 1942 حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر في أوج الاحتلال الألماني، على الرغم من أن الألمان كانوا قد حذّروهم: "إذا ربحتم ستموتون"، ومع أنهم دخلوا الملعب وهم مصممون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، لكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة، وبعد أن فازوا، تم إعدام اللاعبين الأحد عشر وهم بقمصان اللعب عند حافة هاوية بعد انتهاء المباراة مباشرة، ليخلدهم نصب تذكاري في نفس المكان بعد هزيمة النازية.
من أشهر وقائع القتل السياسي التي ارتبطت بكرة القدم ما حدث في التصفيات المؤهلة لكأس العالم في المكسيك سنة 1970. حين قام قادة هندوراس والسلفادور باستخدام كرة القدم ذريعة لإشعال نزاعم مسلح بين البلدين الذين كانت علاقتهما متوترة للغاية، وحين فازت السلفادور بثلاثة أهداف نظيفة على هندوراس، وشهدت المباراة حوادث بين جماهير المنتخبين، ضخمت وسائل الإعلام الهندوراسية ما حدث بطلب من الديكتاتور أوسبالدو لوبيث أوريانو، الذي استغل الوضع للهجوم على ظاهرة الهجرة المستمرة للسلفادوريين إلى بلاده للبحث عن عمل. وبدأت وسائل إعلامه تشن حملة قوية على المهاجرين، ليأمر بعدها أوريانو بمصادرة أملاك السلفادوريين المقيمين في بلاده وإعادة توزيع أراضيهم وممتلكاتهم على مزارعي هندوراس ويعلن طرد مائة فلاح سلفادوري كانوا يعملون في بلاده التي ارتفع فيها شعار "أيها الهندوراسي تناول خشبة واقتل سلفادورياً"، وفي سان سلفادور ارتفع شعار "لا بد من تلقين هؤلاء البرابرة درساً".
وحين فازت السلفادور على هندوراس بثلاثة أهداف مقابل هدفين في المباراة الحاسمة، عبر الجيش السلفادوري الحدود للدفاع عن مواطنيه، ليندلع نزاع مسلح استمر خمسة أيام، وأوقفته منظمة الدول الأميركية، بعد أن أسفر عن حصيلة قتلى بلغت أربعة آلاف شخص. وعلى حدّ تعبير جاليانو، فإنّ "أسياد الأرض وسادة الحروب لم يريقوا قطرة واحدة من دمائهم، بينما كان شعبا الحفاة المتماثلان في بؤسهما ينتقمان في الوجهة غير الصحيحة ويقتتلان فيما بينهما بحماسة وطنية".
بعد أن فازت البرازيل بمونديال 1970، حرص ديكتاتور البرازيل الجنرال ميديشي باستغلال الفوز سياسياً، حيث وقف أمام المصورين وهو يحمل كأس العالم بين يديه وقام بضرب الكرة برأسه أمام الكاميرات، وأصدر قراراً بأن تصبح الموسيقى الرسمية للحكومة هي مارش (إلى الأمام أيتها البرازيل)، الذي وضعت ألحانه خصيصاً من أجل المنتخب، ويتم تحويل شعار (لم يعد بإمكان أحد وقف البرازيل) الذي كان يذاع بمصاحبة صورة بيليه وهو يطير فوق العشب إلى شعار سياسي يدعم به عسكر البرازيل حكمهم.
واقعة مأساوية أخرى حدثت في كأس العالم التي أقيمت في ألمانيا عام 1974، حين تم اكتشاف أول حالة منشطات لدى لاعب هاييتي إرنست جان جوزيف، بعد مباراة بلاده مع إيطاليا والتي انتهت بهزيمة هاييتي، صدر قرار بطرده من المونديال، ليطلب اللاعب اللجوء السياسي إلى ألمانيا خشية أن يلحق الأذى به عند عودته إلى بلاده، وقبل أن تبتّ الحكومة الألمانية في طلبه، اختفى اللاعب بصورة مفاجئة من المعسكر، ليتضح فيما بعد أنه تعرض للاختطاف على أيدي أفراد حراس الديكتاتور الهاييتي جان كلود دوفالييه، ليتم نقله سراً إلى الجزيرة الكاريبية، حيث تعرض هناك للتعنيف والضرب من قبل دوفالييه نفسه الذي أمر لاحقاً باحتجازه في معسكر سري، تعرض داخله لتعذيب متوحش.
كما يروي جاليانو وبيرنيكي في كتابيهما، يبقى مونديال 1978 في الأرجنتين أبرز نموذج لاستغلال الطغاة لكرة القدم في غسيل سمعتهم الدامية، فقد كان أكثر مراكز الاعتقال السرية دموية في الأرجنتين خلال حكم العسكر، موجوداً في كلية الميكانيكا التابعة للأسطول الأرجنتيني على بعد أمتار من ستاد المونومنتال الذي احتضن عدداً من أبرز مباريات المونديال، وبعد أن فاز المنتخب الأرجنتيني باللقب ظهر الجنرال خورخي فيديلا في المركز الإعلامي، وقال للصحفيين إن "القوات المسلحة الأرجنتينية بعد عامين ونصف من توليها السلطة السياسية وتسلمها بلداً في حالة تأخر، أمكن لها أن تظهر بفخر أمام أعين العالم الذي بذله كل الأرجنتينيين وهم يسيرون نحو تحقيق الأهداف النهائية لتطور بلادهم"، ليتجمع حوله بعض الصحفيين ويطلبوا منه توقيع أتوجرافات، في حين رفض اللاعبون الهولنديون خلال توزيع الجوائز مصافحة قادة الديكاتورية الأرجنتينية، لكن ذلك لم يكن رأي ضيوف آخرين مثل كابتن الفريق الألماني الذي قال إنه لم ير أي معتقل سياسي في الأرجنتين، "البلاد التي يسودها النظام"، ومثل الأفّاق الأزلي هنري كيسنجر الذي قال إن للأرجنتين مستقبل عظيم على كافة المستويات.
كانت الحكومة العسكرية قد دفعت نصف مليون دولار لشركة أمريكية متخصصة لتجميل صورتها عالمياً، للقضاء على "الافتراءات التي ينشرها الأرجنتيينون العاقون في وسائل الإعلام الغربية"، على حد تعبير أحد رموز النظام، وفي الوقت الذي كان من الممنوع فيه توجيه أي انتقاد للمدير الفني للمنتخب الأرجنتيني أو للاعبيه، وكان التصفيق لهم في المدرجات إجبارياً، استغل قادة البلاد الدعاية الإعلامية المكثفة لإنجاز خطة (الحل النهائي) التي كانت تسعى لتصفية آلاف من المعارضين، دون أن يخلفوا لهم أثراً، بابتكار وسائل جهنمية مثل إلقائهم من طائرات هيلكوبتر في المحيط، لدرجة أن عدد القتلى في تلك الخطة لم يعرف مطلقاً كما يقول جاليانو، في الوقت الذي تعرض فيه المكلف بمهمة الإشراف على المونديال لاغتيال غامض، لأنه قام دون أي رقابة بصرف مبالغ هائلة من النقود، حتى أن ذلك أثار ضيق وزير أشغال حكومة العسكر خوان أليمان الذي تساءل عن مغزى ذلك التبذير للأموال العامة ووجه أسئلة غير مناسبة، برغم أن الأميرال لا كوستي المشرف على ملف المونديال كان قد حذر معارضيه قبل ذلك من ألا يتذمروا إذا وضعت لهم قنبلة، ولذلك لم يكن من الغريب أن تنفجر قنبلة في بيت الوزير آليمان في نفس اللحظة التي كان فيها الأرجنتينيون يصرخون فرحين بالهدف الرابع في مباراتهم ضد بيرو.
في كتابه الذي يفيض عشقاً لكرة القدم التي "أصبحت مع الوقت توفر ميداناً شعبياً للجماهير تنعم فيه بقليل من الديمقراطية"، يستعرض إدواردو غاليانو تاريخ الاستغلال السياسي لكرة القدم، في دول عديدة مثل أسبانيا التي حين كانت تعاني من ديكتاتورية الجنرال فرانكو، قام رئيس نادي ريال مدريد بتحديد مهمة كرة القدم بأنها "تبقي الناس سعداء خدمة إلى الأمة"، في حين امتدح زميله رئيس الأتلتيكو مدريد فضائل الفاليوم الجماعي الذي توفره كرة القدم، والتي تجعل الناس لا يفكرون بأشياء آخرى خطيرة، وفي تشيلي التي عيّن فيها الجنرال بينوشيه نفسه رئيساً لنادي كولو كولو أوسع أندية البلاد شعبية، وفي بوليفيا التي استولى على حكمها الجنرال غارسيا ميزا فعين نفسه رئيساً لنادي ويلستيرمان صاحب الجمهور الواسع، وفي إيطاليا التي كسب صاحب نادي ميلان سيلفيو بيرسلكوني الانتخابات فيها أكثر من مرة بفضل شعار قوة إيطاليا المأخوذ من مدرجات ملاعب كرة القدم، ليعد بإنقاذ إيطاليا مثلما أنقذ نادي ميلان، فيصدقه الناخبون الذين نسوا أن بعض شركاته كانت على حافة الانهيار، وفي البلدان الصغيرة والفقيرة التي تحول قميص المنتخب الوطني إلى أهم رمز لا ريب فيه للهوية الجماعية والتي أصبحت تعتمد على كرة القدم لكي تظهر على الخريطة، ولذلك لن يمانع الملايين من أبنائها أبداً لو سمعوا أن زعيم بلادهم يحذر لاعبي المنتخب القومي من الهزيمة التي سيكون ثمنها الموت، بل وربما اعتقد الكثير منهم أن سبب هزائم منتخباتهم المستمرة، يتمثل في الحرية الزائدة الممنوحة للاعبين الذين لن يوصلهم إلى الفوز إلا الخوف من القتل.
*********************
"كرة القدم بين الشمس والظل" ــ إ دواردو غاليانو، ترجمة صالح علماني، طوى للنشر والإعلام.
"أغرب الحكايات في تاريخ المونديال" ــ لوثيانو بيرنيكي، ترجمة محمد الفولي، مسعى للنشر والتوزيع.