علي شرف الدين.. كمن أحيا الناس جميعاً
قادتني مهنتي في إحدى القنوات اللبنانية الخاصة في التسعينيات إلى تحقيق في تجارة الأعضاء، توصلت فيه إلى حقيقة مذهلة عن مدى التفنّن اللبناني في استخدام الطائفية، لدرجة اعتمادها كذريعة من قبل تجار الأعضاء لترويج تجارتهم البشعة.
كيف ذلك؟ ببساطة أقنعت إدارة أحد المستشفيات الشهيرة في بيروت مرضى الكلى لديها من أديان مختلفة بأنه ليس باستطاعتهم قبول تبرّع بعضو من شخص مختلف الديانة! أمّا لماذا؟ فقد قالوا لهم إنّ ذلك قد يؤدي إلى "اشتراكات"! لا تضحكوا. أي والله! كما أقول لكم تماماً.
ما هي هذه "الاشتراكات" الطبية؟ ما نوعها؟ لا أظن أنّ علم ذلك موجود حتى عند الله سبحانه، بل عند تلك العصابة التي كانت تتكوّن، إضافة الى التجار، من أطباء وممرضين وإداريين، في المستشفى المذكور.
نعم. كما فهمتم بالضبط. أي أنّ المسلم لا يستطيع قبول كلية مسيحي مثلاً، والعكس صحيح!
وما البديل؟ بالطبع كلية من "متبرع" من الطائفة نفسها، كما قيل للمرضى الذين قابلتهم وقتها. ولكن، مقابل بدل مادي مرتفع يمرّر تحت الطاولة، يذهب جزء منه إلى السماسرة وجزء للمتبرّع الذي هو في الحقيقة بائع معدم مضطر لبيع كليته. وبالطبع لم تكن طائفة "المتبرع" المزيف معروفة للمتلقي/ المشتري، لأنّ الأمر يتم بسرية أصلاً، والمستشفى هو الذي يدير الأمر!
كان الموضوع بأكمله غامضاً للمرضى كما أسرّوا لي، خاصة أولئك المتدينين منهم، والذين لم يحظوا بقسط من العلم، ومع ذلك وبسبب الخوف فضّلوا اتباع نصيحة المستشفى والتخلّي عن كلية مجانية "غير مطابقة للمواصفات" الطائفية!
وبغضّ النظر عن مصير التحقيق الذي لم يُعرض أبداً، كون أصحاب المستشفى كانوا من أقرباء بعض السياسيين المساهمين في التلفزيون، والذين، كما قيل لي وقتها في معرض تبرير حجب الفيديو، "عالجوا" الموضوع بسرية مع المسؤولين الحكوميين، كنت قد اقتنعت بأنّ الطريق أمامنا لفهم وإقرار سياسة وهب الأعضاء في لبنان ما زال طويلاً.
الخوف من تقطيع الجسد، أو فقدان أجزاء منه حتى بعد الوفاة، قديم قدم الإنسانية
ومنذ ذلك الوقت تابعت النقاش حول هذه المسألة، لكن تلك المتابعة، خاصة حول موقف الشرع من وهب الأعضاء، زادتني يقيناً بصعوبة قبول الناس للفكرة، خاصة أنّ هذا النقاش بدا وقتها، أي في التسعينيات، متلعثماً، حافلاً بالشواهد والشواهد المضادة بالرغم من وضوح نبل الفكرة.
فما إن يقوم الشيخ فلان الفلاني بالقول برأي ما، حتى ينبري له شيخ من مذهب آخر، وأحياناً من المذهب نفسه، لنقض رأيه، إثباتاً أو تذكيراً بسلطته على جماعته من المواطنين.
لذا انصرفت عن المتابعة وما كانت تورثه من غضب في قلبي يذكرني بمدى تمكّن الطائفية، وهي في وعيي عكس الدين، من عقول الناس.
لكن يجب القول إنّ لبنان بذل جهوداً في سنوات ما قبل الانهيار الاقتصادي الأخيرة، أدّت إلى تشريع ديني ودنيوي لوهب الأعضاء. لا بل إنه أقرّ تمويل الدولة لـ"اللجنة الوطنية لوهب وزرع الأعضاء والأنسجة البشرية". كان ذلك خبراً مفاجئاً وعظيماً.
لذا، حين ظهرت صورة ذلك الشاب على الشاشة ضمن تقرير تلفزيوني عن تبرّع أهله بأعضائه إثر وفاته بحادث سير، تعلّقت عيناي بالشاشة.
علي شرف الدين، شاب في مقتبل العمر، فكر مسبقاً وهو بهذا العمر الصغير بترك وصية بهذا المعنى لأهله! كان الخبر حزيناً لا شك. أولاً لخسارة مثل هذا الشاب ذي التفكير الراقي برغم صغر سنه، لكنه كان أيضاً خبراً جميلاً. بدا لي نوعاً من بشارة غصن الزيتون في منقار حمامة، تقول لأهل الطوفان إنّ البر قد ظهر أخيراً.
فالخوف من تقطيع الجسد، أو فقدان أجزاء منه حتى بعد الوفاة، قديم قدم الإنسانية. والمعتقدات القديمة كما عند الفراعنة مثلاً، آمنت بأنّ وحدة الجسد وصونه كاملاً عبر تحنيطه شرطان أساسيان للعبور نحو حياة آخرة ممكنة، لا بل إنها كانت تؤمن بأنّ فقدان عضو من جسد المتوفي سيحرمه ذلك العبور الذي اقتصر على الأغنياء القادرين على دفع بدل التحنيط مرتفع الثمن أيامها.
وبغضّ النظر عن الزمن، أستطيع تفهم هذا الخوف الإنساني القديم. فما بعد الموت مجهول كبير للبشر، والعواطف التي تكتشفها والأسئلة التي تسألها بعد أن يُوارى حبيب لك التراب، لا إجابات مثبتة عليها.
العواطف التي تكتشفها والأسئلة التي تسألها بعد أن يُوارى حبيب لك التراب، لا إجابات مثبتة عليها
غالباً الأسئلة المؤلمة هي من نوع: هل لا يزال المتوفي يشعر بشيء ما؟ ألا يضيق صدره تحت التراب؟ والإجابات غير قابلة للتصديق مائة بالمائة لأنّ الخوف من الموت، ومن المجهول بعده، شخصي لهذه الدرجة طالما أننا كلّنا سنموت، ولأنّ لا أحد عاد ليشهد.
لكن ما لفت نظري في التقرير التلفزيوني كان هدوء والد الشاب الذي تبيّن أنّه كان عضواً في حركة كشفية متدينة. كانت ملامح وجهه برغم الفجيعة بابنه، تنم عن سلام داخلي محيّر. وبذلك الهدوء ردّ الأب على سؤال المراسل عن شعوره لدى معرفته بوصية ولده بقوله "هذه وصيته. كلّ ما فعلته أنّي سألت سؤالاً واحداً: هل يسمح الشرع بهذا؟ إن سمح، فلا مانع أبداً. لا بل بالعكس، هذا إحياء للأنفس وتصدّق كما فهمت بغضّ النظر عمن ستذهب إليه الأعضاء المتبرّع بها". ثم أضاف بعد هنيهة: "تكفيني ويكفي ابني دعوة أم أو أب كانت حياة أولادهم معلّقة على تبرّع مثل هذا".
التعبير الذي كان على وجه الوالد في تلك المقابلة التلفزيونية جعلني أتأمله ملياً: ما السبب في هذا الهدوء البالغ لأب فقد شاباً في ريعان الصبا، لا بل أوصى بتوزيع أعضاء جسده على المحتاجين؟ من أين يأتي بكلّ هذا الاطمئنان؟ بكلّ هذا السلام؟ هذه الثقة؟ ما الذي يجعل "مجهول" الآخرين المخيف لما بعد الموت معلوماً ومطمئناً بالنسبة لعليّ ولوالده؟
كان الجواب بسيطاً: الإيمان.
إيمانهما كان حقيقياً. لا يداخله شك أو تردّد أو خشية من مجهول ما. أثبت علي إيمانه هذا بحسمه التبرّع بأعضائه بعد وفاته دون أدنى حيرة. أما والده، فقد برهن عمق إيمانه بتلك البساطة والهدوء اللذين نفذ فيهما وصية ابنه غير الاعتيادية، خاصة في القرى.
هنيئاً لهما، تقول في نفسك. تحسدهما على هذا الإيمان، وأنت تتذكر الطائفيين حولك من كلّ الأديان والمذاهب. أولئك الذين تقض مضاجعهم "أدبيات" عذاب القبور، ويُقادون بخوفهم من أنوفهم إلى حظائر الطوائف التي نادراً ما تُصادف داخل جدرانها المرتفعة أيّ مؤمن حقيقي.