29 ديسمبر 2019
عن صحّة الموقف الرافض للانقلاب في تركيا
يومًا بعد يوم، تتكشَّف صحّة الموقف الرافض للمحاولة الانقلابية العسكريَّة التي جرت في تركيا عام 2016، والتي كادت تطيح بنظام حزب العدالة والتنمية، لولا المستوى المقبول من الثقافة الاجتماعية الديمقراطيَّة الموجودة عند النخب والشعب التركيين بالدرجة الأولى، والانقسام داخل الجيش نفسه، إضافة إلى عوامل أخرى كثيرة.
صناديق الاقتراع التي أوصلت رجب طيب أردوغان إلى السلطة، هي نفسها الآن تضع حداً لهيمنته وشعبويّته وميله للاستفراد بالحكم. الاقتراع الديمقراطي الأخير في تركيا، أظهر أنّ قضايا الناس المعيشيَّة، والمسألة الاقتصاديّة، وموضوع الحريات السياسيّة، هي أمرٌ يؤثّر في مزاج الناخبين الأتراك، لا فقط الخطاب الشعبوي، واستحضار الآيات القرآنية، واستخدام الغرائز الدينية في الدعاية الانتخابيَّة.
التعويل على العسكر من أجل مواجهة الإسلاميين، هو أكبر خطأ تاريخيّ وقعت فيه النخب السياسية والثقافية المصريَّة. كرهاً بالإخوان (وأنا شخصياً لست إخوانياً، وأراهم جماعات يجب التفاوض والنزاع وعقد التسويات معهم)، رحّب الكثير من المثقفين المصريين بالسيسي. والآن، أهمّ بلد عربي، شهد أهمّ ثورة في تاريخ المنطقة، يحكمه رئيسٌ يقول للغرب بتذلل سخيف: "حقوق الإنسان لا تصلح في بلادنا"، في أبشع أشكال الانسحاق أمام الغريب، واحتقار الذات.
ما حصل في مصر قصم ظهر الجميع، وخصوصاً لنا في سورية.
في كتابه "ثورة مصر - من الثورة إلى الانقلاب"، وفي لقاءاته التلفزيونية المتكرّرة على قناة "الجزيرة"، كان المفكّر الدكتور عزمي بشارة يحذّر دوماً من الالتجاء إلى العسكر، هرباً من الإسلاميين. وكان يشير إلى ضرورة الاتفاق على قواعد اللعبة الديمقراطيَّة أولاً. باختصار من لا يشبهك بنمط الحياة (مأكل، ملبس، مشرب..)، ولكنّه يؤمن بالعملية الديمقراطية ويعترف بنتائجها، هو أقرب إليك سياسياً ممن يشبهك بنمط الحياة، ولكنه لا يؤمن بالعملية الديمقراطيّة ويحتقرها. من لا يتفق معك في كل تفاصيل موضوع الحريات الفرديَّة ونمط الحياة، من الممكن أنْ يذهب ويتغير في ظلّ الديمقراطيَّة. وهذا كان فعلياً مسار العلمنة في كثير من الدول الأوروبيَّة (باستثناء اللائكية الفرنسيَّة)، أي إنَّ النزاع مع المحافظين على موضوع الحريات الفردية جاء بعد إقرار الأخيرين بمبادئ اللعبة الديمقراطية.
نعود إلى تركيا، متى كان للكرد حزب كبير مثل "حزب الشعوب الديمقراطي" يشارك في الانتخابات ويفوز ويخسر؟ كانت البندقية العسكريَّة مغروسة في بطن الكرد في فترة حكم الجيش لتركيا.
وصل أردوغان إلى السلطة لامتلاكه مشروعاً اقتصادياً جباراً، أعاد تركيا إلى الساحة الدولية كقطبٍ مكافئ لا تابع. وبتراجع المشروع الاقتصادي وتقدم الميل الشخصي، فإنَّ الناخبين الأتراك لن ينتظروا. نفس الأسباب التي أوصلت أردوغان إلى السلطة تهدّده الآن، وهذه هي الديمقراطية التي ندافع عنها، لا أردوغان ولا غيره.