عن فضيلة المواجهة
لا ريب بأن الزمان قد تبدل، وبأن طبائع الناس في تغير مستمر، ومما يرعي الانتباه إلى هذا التغيير تلك الحالة الهشة التي تشاهدها في وسائل الإعلام، ومن ثم في وسائل التواصل، وتحول الموازين بشكل مخيف جدًا، ومن أوجهها تحول التفاهة إلى المعيار الأساسي والأهم في كل شيء، بل حتى أصبحت -ومن باب التندر- أنك إن أردت أن تكون من المشاهير فما عليك إلا أن تظهر بشكلٍ سخيف، وقد قالت ذلك طفلة انتشرت مقاطعها في مختلف منصات التواصل، عندما سئلت عن كيفية الوصول إلى الشهرة التي حققتها، فردت بلا مبالاة "ارقص".
ولن أتناول في تدوينتي هذه الكلام عن السخف والسخافة، وما يتصل بهما من تردٍ في الدين والفكر والقيم الأخلاقية، فقد استرعى انتباهي جانبٌ آخر من هذا التغيير الذي يتزايد بشكل مضطرد، هو انسحاب الناس من المواجهة، وتفضيلهم الركون والدعة، ومحاولة إلباس القضايا غير لباسها، وهي حالة عامة لا تكاد تخلو منها أسرة أو شركة حتى بلغت مبلغ الأوطان والبلاد، فأي مشكلة تقع يُراد حلها عبر "الطبطبة" والكلام الهيّن الرمادي، والبعد عن المشاغبة، وأن الإصلاح القادم من العنف ولو كان لفظيًا، فإنه لا يؤتي أُكله.
وربما قد عزز من هذا التوجه الفردي ومن ثم الاجتماعي، عددٌ من الأسباب أبرزها:
1. حالة القمع التي كانت سائدة في مختلف بلادنا العربية، وهو قمع تجذر في بنية المجتمع والسياسة على حدٍ سواء، وتحول منذ أن خرج الاستعمار من بلادنا إلى حالة تتوسع بشكلٍ مخيف، فلم يعد القمع مقتصرًا على الأمن ويمارس ضد المعارضين، بل تحول إلى أنساق اجتماعية أخرى، كانت موجودة في التربية والبيئة والأسرة، ولكن عززتها حالة الاختناق العام الذي مورس من قبل السلطات.
2. الموروث التقليدي الذي ينافي الدين والفطرة، فالمواجهة ولو كانت بالحسنى والنصح عدا أن تكون بالحجج والبراهين ومن ثم بأكثر من ذلك بوسائل تصاعدية مختلفة، تم إجهاضها من دوائر مختلفة.
لا يتصور بحالٍ من الأحوال أن المواجهة فعل ثوري فقط، بل هي فعل ضرورة لبيان حقوق الناس، وتسليط الضوء على مظالم بعينها
3. حالة القصور الحركي لكثير من الإسلاميين، وهي حالة مكنت رأس الحركة الإسلامية بالتفرد بالرأي والقول، وهي وإن كانت حالة عامة في الحركات الصوفية، إلا أنها مرض فتك في كثير من الحركات الإسلامية ذات البعد الحركي التنظيمي، وأصبحت المداهنة والتطبيل والتحزبات الداخلية أولوية أكثر من الرأي المغاير والنقد والحراك المبني على حالة دينامية من الصحة الحركية.
4. حالة الانكسار التي منيت به الموجة الأولى من الربيع العربي، إذ عادت النظرة السابقة إلى التغيير السياسي بأنه محاولة لهدم الإنجازات القائمة، ولو كان الموجود لا يستفيد منه إلا شراذم من المستفيدين. وأن المواجهة كل مواجهة لا تنعكس إيجابًا على أرض الواقع، بل تؤدي إلى مزيد من التشظي والخسائر وغير ذلك.
5. الانهزام النفسي المتراكم في الأجيال السابقة وصولًا إلى الأجيال الحالية، فالقمع ومنع المواجهة يبدأ من المدرسة، ومن ذلك ما كان الأب يقوله قديمًا لمدرس ابنه "اللحم إلك، والعضم إلنا"، فالأستاذ لا يخطئ في التعامل والقول، والطالب تُمحق كل فضائله -وقد تغير الوضع قليلا-.
وصولًا إلى الأمثال المتوارثة التي تزرع الوهن في نفسية الطفل والشاب، على غرار ما كان يقوله الكبار لمن هم دونهم "امش الحيط، الحيط وقول يا رب السترة"، أو خفض صوت أحدهم عند كلامه عن طاغية نفق منذ بضع سنين.
ومع أن الأسباب فيها من تصوير الحالة الاجتماعية والعقل الجمعي المسكين، إلا أن المواجهة ليست عبئًا يجب التبرؤ منه، بل حاجة ملحة من حاجات المجتمع، وضرورة من ضرورات الحراك، ولا يتصور بحالٍ من الأحوال أن المواجهة فعل ثوري فقط، بل هي فعل ضرورة لبيان حقوق الناس، وتسليط الضوء على مظالم بعينها، ورفع الصوت بوجه عاق أو متسلط أو متجبر وطاغية.
وهنا يمكن الحديث عن نماذج مما يجري في العالم من حولنا اليوم، الأول النموذج الذي تمسك بالمواجهة وما أدار وجهه للعروض والترهيب، ولم تفتنه ما فتن به الناس، بل تمسك بموقفه من منطلقات دينية ووطنية وقبلية، واستطاعوا بعد عشرين عامًا من دحر أقوى دول العالم، وبعيدًا عن تقييم البعض الإيديولوجي لحركة طالبان إلا أن تمسكهم بمواجهة العدو، والصبر على هذا الموقف هو الذي أدى إلى كسب المعركة على إثر هذه السنوات الطويلة. وهو نموذج متكرر في كثير من دول العالم في حقبة مواجهة الاستعمار، وصولًا إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
وفي الختام، المواجهة ميراثٌ فيه من مقاصد الدين والشريعة، إلى جانب كونه قيمة نضالية، لكل الشعوب الحرة الغيورة، التي لا ترضى الهوان، كما أنه فعل ترسخ في ممارسات سياسية وفكرية وقانونية، مكنت عامة الناس من التعبير عما في صدورهم ومحاسبة حكامهم، وهو ما يدفعنا إلى ضرورة إعادة فضيلة المواجهة إلى ركنها الأساسي في المدرك الشعبي، وعدم المضي في التخاذل أكثر من ذلك، وما خسرناه في مئة عام، سنحتاج إلى ألف لمحوه.