عن مهنة تخسر شرفها
هل هذا صحيح؟ إسرائيل ومصر تمنعان المراسلين الأجانب من دخول قطاع غزة؟ وإسرائيل تفرض على المراسلين الموجودين من جهتها الميدانية الاطلاع على تقاريرهم قبل إرسالها للنشر؟ أهذا خبر تورده الشاشات في اليوم الخامس والسبعين لأعمال التطهير العرقي التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة؟ كيف لم يكتب أحد عن هذا الواقع قبل هذا التاريخ؟ أم أنه كتب لكني لم أر؟ أصلاً كيف لم أنتبه؟ ألوم نفسي.
وبذهول، شاهدت تقريراً منذ أيام، تحدث عما وصفه بأنه "اختراق" أول صحافية أجنبية، وهي مراسلة شبكة CNN الأميركية، للحصار الإسرائيلي/ المصري لقطاع غزة من جهة رفح.
تبدو السيدة في التقرير تهمس همساً للكاميرا، وكأنها تخاف أن يسمعها أحد في شوارع القطاع، أو كأنها قامت بسبق صحافي في ميدان.. أشبعه المراسلون العرب والفلسطينيون تغطية، حتى تكاد كل دقيقة في هذه الحرب، لا بل كل زاوية، قد جرت تغطيتها بشكل غير مسبوق. إلا بالطبع ما يتعلق بتغييب المراسلين الأجانب الإجباري عن ميدان غزة.
تضحكني السيدة التي تتحدث بصوت خافت للكاميرا وكأنها في نفق. أم هل أنّها تسللت من نفق؟ لا أظن. قلت في نفسي إني ربما لم ألاحظ الأمر، لأن متابعة القنوات العربية الإخبارية كانت أكثر من كافية. لا بل إن غزارة المتابعة بدأت تصيب الناس بنوع من التبلد بعد ما يقارب الأشهر الثلاثة من بدء الحرب، خصوصاً أنّ الفترة فترة أعياد والحاجة الإنسانية للراحة تدفع "المشاهدين" بعيداً عن يوميات هذه الحرب المجنونة، ولو لبضعة أيام، لبضعة أنفاس.
لذا، لم أتنبه الى "غياب" المراسلين الأجانب عن الميدان الغزي إلا حين أصدرت منظمة "مراسلون بلا حدود" للدفاع عن الحرية الصحافية تقريراً يشير إلى التنسيق المصري الإسرائيلي في منع الصحافيين الأجانب من دخول مسرح الإبادة ونقل وقائعها.
طبعاً، كانت المنظمة تدين هذا السلوك كونه تعدياً على الحرية المهنية وواجب إطلاع الجمهور، وهذا جيد، لكن، ومع أنهم كانوا على حق، إلا أنه تبين أن منع هؤلاء من الدخول، وهم مراسلون لكبريات الشبكات والجرائد، كان بشكل ما إيجابياً.
فقد اضطر المشاهد الأجنبي إلى التفتيش عن المعلومة في أمكنة أخرى، وخاصة في وسائل التواصل الجديدة، وبذلك تمكن من ملاحظة التزييف والتحوير الذي كان المراسلون الأجانب، المجندون لمواكبة جيش إسرائيل والخضوع لرقابته قبل النشر، لا بل التواطؤ معه على سردية الحرب ومبرراتها، يقومون به. وأوضح مثال ما حصل مع كبيرة مراسلي "بي بي سي" ليز دوسيه التي أوحت بأن هناك أنفاقاً تحت مستشفيات غزة يستخدمها مقاتلو حماس والجهاد، ما برر قصفها.
اضطر المشاهد الأجنبي إلى التفتيش عن المعلومة في أمكنة أخرى، وخاصة في وسائل التواصل الجديدة، وبذلك تمكن من ملاحظة التزييف والتحوير
أما النقطة الثانية في التقرير التي شدت اهتمامي، فهي إشارة المنظمة الى عدد شهداء المهنة في غزة أقل مما هو في الحقيقة. وهي النقطة التي أثارت غضب زملاء غزيين يخسرون كل يوم زميلاً أو زميلة، أو حتى عائلاتهم، بقصف إسرائيلي عن سابق تصور وتصميم ومعرفة، لمنعهم من المتابعة.
فعشية صدور التقرير كان عدد الصحافيين الذين اغتالتهم إسرائيل في حرب غزة أكثر من 95 صحافياً وصحافية في فلسطين ولبنان (تجاوز العدد 100)، لكن التقرير أعلاه لم يذكر إلا 65 شهيداً. أما التبرير فهو أنّه حسب مقاييس المنظمة، لا يعتبر الصحافي شهيداً للمهنة إلا إن سقط خلال تأديته مهامه حسب ما جاء في تحقيق صحافي.
لكن، وبمراجعة بسيطة لتقارير المنظمة، يتبين أن هذا الأمر غير صحيح. والأمثلة أكثر من كثيرة. وأوضح مثال على ذلك أنها، أي منظمة "مراسلون بلا حدود"، كانت قد رفعت دعوى قضائية على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في قضية اغتيال الكاتب والصحافي السعودي جمال خاشقجي، مع أنه لم يكن على رأس عمله حين قتل في سفارة بلاده في إسطنبول، بل كان بصدد إجراءات إدارية لتسجيل زواجه الجديد.
لكن المنظمة، مثلها مثل أي مجموعة أو كيان غربي، باتت تطنش عن إجرام إسرائيل ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. بيد أنه هذه المرة كان محرجاً. فالإبادة استمرت لفترة طويلة وكل يوم يمضي زاده أنواع جرائم جديدة يقوم بها الاحتلال الفالت من أي عقال قانوني أو أخلاقي أو سياسي. والهدف واضح للعيان: القضاء على أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من كل الفئات. لا فرق بين طبيب أو صحافي أو حامل.. لا بل يفضل أن يكونوا كذلك. هذا منطق الإبادة. وكما يقال "آخر هم" إسرائيل منظمات حقوق الإنسان. أصلا آخر همها الأمم المتحدة شخصياً. فهل ستأبه لقتل الصحافيين؟
لا بل هناك أكثر من ذلك: فالعدو لم يعد يكتفي باغتيال الصحافيين قصداً، كما فعل في جنوب لبنان أو في غزة، بل أصبح يحاول "تربية" المؤسسات في عقر دارها بالضغط عليها عبر تكرار استهداف صحافييها، كما يفعل بمراسلي قناة "الجزيرة مثلا.
أما في الغرب، فتقرير "مراسلون بلا حدود" لا يعتبر نقطة في بحر "المناضلين" من أجل السردية الإسرائيلية. فهناك جيوش كرست نفسها لاستهداف الصحافيين العرب والأجانب المتعاطفين مع فلسطين، أو حتى أولئك الذين يحاولون أن يطبقوا معايير المهنة بالتدقيق بالمصادر. ولقد أسرت لي إحدى الزميلات العاملات في واحدة من أكبر الصحف الإنكليزية كيف يقوم هؤلاء بإغراق إدارات وسائل الأعلام تلك بآلاف الرسائل الإلكترونية التي تشكو صحافيين بالاسم، وفقا لمرصد إعلامي مشبوه يدعي الخوف على المهنة، ما يضطرها لاتخاذ إجراءات كما في إخضاع المراسلين للتحقيق وإيقافهم عن العمل، لا بل التشهير بهم وعدم حمايتهم من هذا العنف المعنوي، كما فعلت "بي بي سي" مع مراسليها العرب.
كثيرون من الزملاء العاملين في تلك المؤسسات العالمية يشعرون بتهديد مصادر رزقهم، وأنهم غير محميين في ممارستهم مهنتهم. كثيرون استقالوا وآخرون أقيلوا، ومن تبقى منهم برغم المضايقات اليومية، يحاول أن يحافظ على احترامه لنفسه وللمهنة.
قلة من الزملاء ردوا الصاع صاعين، كما فعلت الزميلة ندى عبد الصمد التي رفضت العودة إلى عملها الذي علقته "بي بي سي" للتحقيق في شكاوى ضدها، وقامت برفع دعوى على المؤسسة التي أساءت معاملتها بالرغم من أربعين عاماً قضتها في الخدمة. أو كما يفعل زميل آخر يواظب بعد عودته إلى العمل، إثر توقيفه بتهمة ظالمة، على مبادلة الاضطهاد المهني الإداري برصد مخالفات يقوم بها موظفون في المؤسسة نفسها متحيزون لإسرائيل، والتعبير عن ذلك بشكاوى إدارية بشكل كاد يكون يومياً.
إلا أنَّ الغالبية الصامتة في المهنة تلك التي لا خيار أمامها إلا المتابعة لأسباب كثيرة يصدق فيها ما قاله الروسي أنطون تشيخوف، في إحدى قصصه القصيرة "أن ترى وتسمع كيف يكذبون (..) أن تتحمل الإهانات والإذلال دون أن تجرؤ على الإعلان صراحة أنك في صف الشرفاء الأحرار، بل تُكذِب أنت نفسك، وتبتسم، وكل هذا من أجل لقمة العيش، من أجل ركن دافئ، من أجل وظيفة حقيرة لا تساوى قرشاً، كلا، حياة كهذه لم تعد محتملة".