عن هول الفوضى اللغوية أتحدث!
عزيز أشيبان
نميل إلى الاعتقاد أنه من الصعب الإقدام على محاولة تعريف اللغة وسبر أغوار عوالمها وكنوزها لثقل المفهوم وتعدّد ارتباطاته وامتداداته، لكن من غير المقبول عدم الإلمام بحساسية أهميتها، والإعراض عن صون حضورها، والذود عن هويتها وتطوّرها.
حقيقة، تلتقي في اللغة عوالم متعدّدة ومتداخلة يصعب تفكيك عناصرها وتحديد كيفية اشتغالها، إذ لا مناص من الخوض في العامل النفسي والذهني والأنثروبولوجي والسيكولوجي والسوسيولوجي والجغرافي ولغة الجسد وعلوم اللغة والفلسفة. ربما، بانخراطنا التلقائي في التحدّث بلغة معينة، لا نعي جيداً أنها نتاج عناصر متداخلة ونشيطة تتفاعل مع الزمان والمكان وتأبى التزام السكون والجمود والاستقرار.
تستوطن اللغة ثوابت الهوية والأصالة والإرث المعرفي وبذور التنمية، كيف لا واللغة تتمثل كوعاء للفكر، وحاضنة للرأسمال المعرفي، وتتخلّلها علاقة وطيدة مع تجارب التنمية، إذ يكفي أن نذكر بأنّ اللغة تعكس مستوى تنمية البلد وحقيقة نوعية إنتاجاته الفكرية والعلمية والأدبية وتستقر في قلب النماذج التنموية وتصوّرات الإقلاع.
من ناحية أخرى، معظمنا يعي مفصلية عملية الانفتاح على اللغات الأجنبية وما تقدّمه من حسنات وتفتحه من آفاق. نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، اكتشاف ثقافة الآخرين، اكتساب المرونة، انفتاح الشخصية وتقبّلها للآخر، اكتشاف أعمق للثقافة المحلية وبمقاربة مغايرة، اكتساب الثقة في النفس، عقلنة التعامل مع المفاهيم المعرفية، تدبير أنجع للمشاكل والأزمات، تطوير القدرات المعرفية، تقوية الذاكرة، تقوية الذكاء العاطفي، استدامة نشاط الدماغ. لا غرابة إذن أن يرتقي هذا الخيار إلى التموّقع ضمن لائحة الأولويات، وبقوة.
ثمّة نزوع مفجع للتحدّث بلغتين في نفس الوقت، وهو الخيار الذي يجهز على الذخائر اللغوية عند المتحدث ويفقدها الحركية والنشاط والخلق والإثراء
غير أنّ الانفتاح اللغوي لا يحيل قطعاً إلى الفوضى اللغوية، بل يتعارض معها تماماً، الأمر الذي يدعو إلى الحذر والصرامة والحزم في توظيف اللغة واختيار الألفاظ وبناء التعابير، وعدم الانجراف بسرعة نحو المتاح من الرديء والدخيل من الألفاظ والتعامل معها كمسلمات. لا مناص من الاعتراف بأنّ المشهد اللغوي في المنطقة العربية يئن تحت اضطرابات متعدّدة، من قبيل الصراع المفتعل بين اللغة العامية واللغة العربية، معضلة الانتقال من لغة الكتابة إلى اللغة الشفوية والعكس، وموقع اللهجات المحلية وعدم صون رأسمالها اللغوي، اختيار الحرف المستعمل في الكتابة، التدوين... إلخ. وفي الممارسة اليومية، ثمّة نزوع مفجع للتحدّث بلغتين في نفس الوقت، وهو الخيار الذي يجهز على الذخائر اللغوية عند المتحدث ويفقدها الحركية والنشاط والخلق والإثراء.
من المؤكد أنه عندما تنال من لغتك، تنال من هويتك ووجودك، وتظلّ مستجدياً الملجأ عند لغة الآخرين بعد الانسلاخ عن الذات والوقوع في غيابات التيه والضياع. للأسف، ثمّة ميول، وبدون إدراك، نحو تأجيج نار الفوضى اللغوية مع إغفال تام لعواقب الفعل ومخاطره. لو توقف المرء، ولو لبرهة، وحاول تدبّر المسألة، لأصيب بالهلع من خطورة أهوال ما يواجهه.
في الواقع، تتسيّد آفة الفوضى اللغوية المشهد، كما أنّ تجلياتها تطوّقك أينما رحلت وارتحلت، تقتحم البيوت غصباً، ولا تقيم للحرمات وقاراً، إذ لا يقتصر الأمر على لغة الشارع والمعاملات اليومية وخطابات التسويق، بل انتقل المدّ إلى المستوى الأكاديمي وبرامج الإذاعة والتلفزة والنقاشات الثقافية والفكرية.
ثمّة ميول، وبدون إدراك، نحو تأجيج نار الفوضى اللغوية مع إغفال تام لعواقب الفعل ومخاطره
باعتبار صعوبة الإحاطة بالمعضلة، يستعصي تتبّع وتفحّص أسباب انبعاثها وتمدّدها ومخاطرها. في ما يخص الأسباب، يمكن الشروع في تفحصها من خلال العامل النفسي والذهني، والمتمثل أساسا في اشتغال عقد النقص والتوق إلى إثبات الذات من خلال استعارة لغة الأجنبي المتقدم بموازاة افتقاد المناعة الذاتية. كما يمكن الحديث عن عدم الوعي بأهمية الهوية الثقافية وخلط المفاهيم من قبيل: المواطنة، الانفتاح، والرقي. كما تدفع بعض ردود الفعل نحو واقع اليأس والإحباط بالبعض إلى الانغماس السريع في ثقافة المتقدّم، والتبرؤ من لغة الأصل تعبيراً عن السخط اتجاه بؤس الحكامة القائمة، ويأساً من إمكانية حدوث التغيير، ونفوراً من البنيات الثقافية والفكرية الجامدة، دون الحديث طبعاً عن دور المستعمر في تهميش اللغة العربية وجعل العامية ندّاً لها حتى تسود لغته وتتسيّد المشهد.
لا شك أنّ حضور مدخلات من هذا النوع المركب والبنيوي لن يفرز إلا مخرجات أكثر تعقيداً وتشابكاً. من النافلة القول إنّ الخصوصية الثقافية والهوية المحلية مستهدفة ومطوقة من عدّة جهات، وتعمّق الفوضى اللغوية لا يزيد الأمر إلا تعقيداً ومسّاً بالممانعة والمقاومة الذاتية والجماعية وتعبيد الطريق نحو الاستلاب الثقافي والغزو الأجنبي. للأسف، يستمر المجتمع في الانحدار والتشرذم والبلقنة بمعية انحدار الإدراك الجماعي، تفشّي التفاهة، تردّي الذوق، النيل من الخلق والإبداع مقابل تسيّد التقليد والاستسلام والتبعية، افتقاد روح المبادرة، تعمّق حالات الياس والقرف والبؤس المعرفي، حرمان الذات والمجتمع من حسنات التكلم بلغة أجنبية، تقهقر البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني.
في النهاية، نتساءل: كيف نختار النيل من لغة يتكلمها أكثر من 300 مليون شخص، ونتقوقع في خيارات لا تقود إلا إلى تقويض الهوية والانسلاخ عن الذات والانفصال عن الوعاء الثقافي العام والإجهاز على نقط ارتكاز الثقافة العليا حيث السمو والارتقاء والإلهام؟