غرف نوم مرعبة
تُرعبني غرف النوم التي تحتوي فقط على سرير وكومودينو واحد يصلح لأن تُوضع فوقه أباجورة شاحبة، وقنينة ماء، ونظارات طبية، وعلبة دواء.
غرف مُرعبة تذكرني بغرف المستشفيات وغرف "البانسيونات" في مدن بعيدة وصغيرة، خصوصاً في فصل شتاءٍ مطيرٍ للغاية، حيث الدراجات النارية ذات الطراز القديم جداً، تعبر الشارع فالقةً الماء داخل أحلامك.
غرف نوم لا أستطيع أبداً دخولها، ولا خلق أيّ نوع من الألفة معها. كلّ ما أستطيع إنجازه داخلها هو رؤية الكوابيس ليلاً، وأشباح الموتى والزومبي في جماعات كبيرة يتقدّمون من ساحل البحر الهائج في اتجاه وسط المدينة بشعور طويلة، مليئة بالزبد والطحالب ودماء الغرقى، وبمحاجر فارغة تحدّق مباشرة فيك.
ذات مساء في مدينة ساحلية صغيرة فتحت جارور كومودينو غرفة "البانسيون" فوجدت مقصّاً، فتحت الجارور الثاني فوجدت علبة كبريت. لم يكن للغرفة نافذة. إنها رسائل واضحة إليك من العالم الآخر للقتل وإشعال الحرائق. غرفة محرّضة بشدّة على ارتكاب جريمة، وفي أحسن الأحوال محرّضة على الانتحار.
غرفة نام على سريرها آلاف العابرين منذ القرن الماضي، دخنوا السجائر الرديئة والحشيش وتعاطوا الحقن، مستعملين أكفهم مرامد، اضطجعوا على ظهورهم بأحذيتهم قبالة سقفها الواطئ المخيف، كحّوا وعطسوا وتمخّطوا ومسحوا مخاطهم ومنيهم على إزار سريرها ثمّ قلبوه.
النوم داخل غرفة نوم صالحة للنوم فقط، أسوأ حتى من الموت، خصوصاً بالنسبة إلى عازب!
والآن، رغم أنّ تلك الإزارات تُغسل كلّ يوم في ماكينة غسيل عملاقة، أو تُغسل مرّة كلّ أسبوع على الأقل، فإنّ روح المخاط والمني واللعاب والعطاس والشَّعر والأظافر المقصوصة بسكين أو بالأسنان والعرَق والزكام والسل والتيفوئيد والسيدا والاحتضار... تتفوّق دائماً على رائحة مسحوق غسيل واحد، حتى وإن كان برائحة الليمون الأخضر الغض أو برائحة الصنوبر الوحشي، تتفوّق حتى على رائحة الكافور والجير والرطوبة وبراز الفئران والجرذان تحت السرير، وداخل الجوارير، وبيض الذباب، وآثار مشية الصراصير الليلية المتثاقلة، قادمة كالغطاسين من ماسورة المرحاض في اتجاهك، وبقايا دم البق مسحوقاً بالأحذية على الجدران، وأنت ما زلت تسمع أصداء السحق.
لا تشمّ في تلك "الإزارات" والملاءات والوسائد سوى رائحة جحافل كثيرة من الناس ماتوا جميعاً على الأرجح لأسبابٍ سحرية وغامضة قبل أن يكتمل القرن، رائحة عزلة وقنوط وموت تُناديك بقوة.
وحين تنهض لتتفقد الغرفة هارباً من كلّ هذه الآثار غير الواضحة لكلّ من عبروا، فلا تجد سوى هذه الرائحة وهذا الظلّ المضاعف للغياب، وهذه النكهة الغريبة للهواء وللأوبئة. ولا تجد سوى علّاقةٍ قديمةٍ لمعطف واحد، ومرحاض ضيّق، وصنبور أجشّ تحته سطل ذو عمق بورخيسي خياليّ ومرآة مضبّبة ومخدوشة بالأظافر والأنياب، نظر إليها ملايير الأشباح قبلك، وحلقوا أمامها ذقونهم، وجرحوا وجوههم، ودماؤهم غير المرئية ما زالت تتجمّع قطرة قطرة، وتسيل في اتجاه الماسورة ومن ثمّة في اتجاه المحيط، وعليك أن تحاذر كي لا تتعثر بالجثث، وتغرق في نهر الدم غير المرئي.
أهرب طيلة حياتي من غرف النوم الرسمية، لأنام على الكنبات قبالة تلفزيون صغير مشتعل وألعاب أطفال وصحون طائرة على الطاولة ونوافذ مفتوحة حتى في العاصفة، كما أهرب من أسرّة "البانسيونات" والأوتيلات لأنام في صالة الاستقبال على كرسي أو على "فوتوي" قبالة موظف الاستقبال الليلي الذي لا ينام أبداً، ولا يستيقظ أبداً.
سريري مُحاط بألعاب ضخمة، ورشاشات أطفال معبّأة برصاص حقيقي، ودمى من كلّ الأصناف والأنواع والأحجام، ساعات منبّهة في كلّ مكان ترن كلّ واحدة كلّ دقيقة كي تُذكرني بأنّي حيٌ ولست ميتاً، وأنّي مستيقظٌ ولست نائماً.
وعوض الجدران هناك الكتب، أسكن وأنام داخل غرفة مبنية بالكتب وليس بالطوب، لا لأقرأها، بل فقط كي أستطيع هدمها بسرعة، بدفعها والهرب كلّما احتجت إلى ذلك، وإن ضرب المدينة زلزال تسقط فوقي كتب شعر وروايات رومانسية وموسوعات ومجلّدات عتيقة عوض أن يسقط فوقي الإسمنت المسلّح.
النوم داخل غرفة نوم صالحة للنوم فقط، أسوأ حتى من الموت، خصوصاً بالنسبة إلى عازب!