غزة الصامدة.. الأطراف وارتفاع السقف
محمد القيق
تُسارع كلٌ من حماس وإسرائيل إلى بلورة معادلة السقف المرتفع، إذ يحاول الطرفان تحقيق تقدّم ما في المنعطف الخطير والحسّاس في الصراع الدائر بينهما الآن. وهذا التسارع مبني على تفاصيل عملية طوفان الأقصى التي لم تكن عابرة في قرار حركة حماس، وأيضاً ليست محطة وجولة كغيرها في تصرّفات إسرائيل، فبات استجماع أوراق القوة لدى كلّ طرف على النحو التالي:
(1): حماس، ومعها الشعب الفلسطيني، خرجت عن الروتين المقاوم وتجاوزت المحدّدات وقواعد الاشتباك ضد إسرائيل، مستندة إلى قناعتها بأنّ فكرة التحرير والمقاومة هي أساس نشأتها، وأنّ الترويض الحاصل سيؤدي إلى التلاشي، بما يحوّلها إلى حارس مخزن سلاح لا يمكن استخدامه تدريجياً، وكذلك حالها في الضفة الغربية، وهذا سيكون لصالح إسرائيل التي باشرت تنفيذ خطط استيطانية شرسة متسارعة منذ 2019، بالتزامن مع التضييق على الأسرى واستهداف الأقصى.
(2): إسرائيل في موقع لا تُحسد عليه، حيث التوتر الأمني والمواجهة شبه الدورية ضد الفلسطينيين، ما يجعل منها قاعدة عسكرية على الدوام، وذلك بدلاً من أن تأخذ شكل الدولة والشعب والاقتصاد والحياة والانفتاح على العالم..
(3): ارتفع سقف الفلسطيني في إطار ردّه على خيبة الأمل التي تراكمت على امتداد عقود؛ ليس في تجاهل القضية وحسب، وإنّما في التخلّص منها أيضاً، وذلك عبر مشاريع تطبيع تشطب الوجود الفلسطيني، فبات خياره محصوراً بالمقاومة، ولم يعد يقبل بالروتين القائم المستنزِف للقضية، فكان المنعطف.
(4): وبالنسبة للإسرائيلي، فقد تجدّدت لديه فكرة تهجير الفلسطينيين، فعلاً لا قولاً، وهذا بدأ في عام 2018 في الخان الأحمر والأغوار والشيخ جراح، وكذلك الأمر في مسألة تسريع مشاريع التهويد في القدس والتجويع وإفقار غزة. وفي هذه الفترة بالذات، ارتفع السقف ليتم استخدام كلّ ما يلزم لتعزيز التهجير ضمن معادلة التخلّص من روتين التهويد.
أينما نظر الفلسطيني حوله اليوم لا يجد إلا احتلالاً يطوّقه من كلّ الجهات
(5): أينما نظر الفلسطيني حوله اليوم لا يجد إلا احتلالاً يطوّقه من كلّ الجهات، ويضاف لذلك إغلاق باب الانتخابات في وجهه، وازدياد الفساد، وتعمّق الظلم، وعدم وجود حل لقضيته، وغدا المشهد في حاجة الفلسطيني للعيش وحاجة الإسرائيلي للأمن، وكأنّها هدنة تتلوها هدنة، والخاسر فيها الفلسطيني دون وجود تراكم للتحرير.
(6): الإسرائيلي، ومعه بعض العرب، رفعوا السقف لتغيير الخريطة بإقصاء رأي الشعب الفلسطيني، وإبقاء اليد الأمنية التي توّجهها تلك الأطراف، ولكن سقف العرب تضارب مع سقف الإسرائيليين بشأن الخريطة، فهم يريدون التغيير السياسي وإسرائيل تريد التغيير الجغرافي، وهذا دمار لهم مستقبلاً.
(7): حماس والفلسطينيون لم يعد في وسعهم التعامل مع المشهد القائم المذكور أعلاه؛ فهم في النهاية ليست لديهم مصالح ضخمة كي يخسروها، وسقفهم التحرير وليس التحسين.
(8): الإسرائيلي خاسر في هذه المعركة استراتيجياً، ولو أنّه من الممكن أن يربح مرحلياً، لأنّ تجربته مع الفلسطينيين عبر تاريخ الصراع تبقيه هو الخاسر، فمنذ عقود وهو يبحث عن الأمن والازدهار دون أن يحصل عليهما، وكذلك لم يحصل على مقوّمات الدولة والسيادة التي يريدها المواطن.
الشعب الفلسطيني صامد في أرضه، وسيبقى مشدوداً نحو حقوقه في كلّ الظروف
(9): ليس لدى حماس والفلسطينيين ما يخسرونه بتاتاً، وهذا ثبت عبر الزمن، فكلّما اعتقد الاحتلال أنّه انتهى من مواجهة، دخل أخرى أوسع منها وخسر أمنه. وفي جلّ مواجهاته تلك، أُرغم الاحتلال على الانسحاب، ومع استمرار المقاومة تبقى إسرائيل خاسرة على الدوام. فحسب معطيات التاريخ حاولت إسرائيل وضع مقاييس للفلسطينيين ليشكلوا سلطة تحت الرقابة الأميركية، ومع ذلك فشلوا وأبعدوا قيادات حماس والجهاد الإسلامي مطلع التسعينيات وفشلوا، وكانت قبل ذلك انتفاضة الحجارة، وبعدها انتفاضة الأقصى، وانتخابات 2006، وحروب غزة، وانتفاضة القدس، وهبة الكرامة، وسيف القدس، والبوابات، وهبة النفق، وجبل أبو غنيم... وكثيرة هي المعطيات التي تقول إنّ رفع السقف مرهق لمن لديه مصالح، ومنقذ لمن لا شيء لديه يخسره طالما ينشد حقوقه.
لذلك لا يمكن أن يجلب نار القصف ترويضاً للفلسطينيين، قد يجلب صورة انتصار لجندي يقف على دبابة ويرفع شارة نصره في قلب غزة، وهي صورة تكرّرت عبر عقود، ليأتي انسحابه بعد ذلك ويبقى تحت النار في جغرافيا متفرقة.
إذن لم تجلب شارة النصر هذه الأمن للإسرائيلي، ولا حل بعد هذه التجارب إلا إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وغير ذلك سيبقى الاحتلال وستبقى المقاومة، وإن خفتت يوماً سترتفع في آخر، وسيبقى السقف مرتفعاً ما لم يُعَد للمشهد واقعيته، أنّ الشعوب تحصد حقها ولو بعد حين، وأنّ الأمن للمحتل لا يأتي إلّا بالحل السياسي على أساس الحقوق.
نشهد اليوم دماً وقصفاً في كلّ مكان، محصلته اختصار الطريق وإعطاء الحقوق، غير ذلك فمن الواضح أنّ المشهد سيتحوّل إلى حرب إقليمية قد تزداد فيها الفواتير وتتغيّر فيها المعايير، لكن الثابت فيه (وهو أمر لا يمكن التخلّص منه أبداً)، أنّ الشعب الفلسطيني صامد في أرضه، وسيبقى مشدوداً نحو حقوقه في كلّ الظروف.