غزة: عبء الكرامة على المهانين
لم تعد غزَّة ذلك المحتوى اليوميَّ الذي يتألَّم البعض بمشاهدته، ويشعر الكثيرون بالعجز، بينما يتأهَّب أصحاب الرأي والقرار والسيادة لخبرٍ يأتيهم من تل أبيب، يُنبئهم بانتهاء الحرب، ليس بانتصار غزَّة وإنَّما بالقضاء على المقاومة، على تلك الفكرة المزعجة المقلقة التي تؤرِّقهم وتقلق نومهم، ليس بالنظر إلى أنَّها حركة تحرُّر وطني تسعى لتخليص تلك الأرض من محتلِّها، وإنَّما بابتذالها واختزالها زورًا على أنَّها حركة إسلام سياسي لا أكثر، ككلِّ تلك الأذرع الحركية التي تسعى الأنظمة لاستئصالها في بلدانها.
وبالتالي فينظرون إلى "إسرائيل" على أنَّها ذلك النظام الشقيق "المخلِّص"، بينما غزَّة هي حاضنة تلك الذراع التي لا بدَّ من قطعها، وهم يغضُّون الطرف عن أنَّ المقاومة ليست حكرًا على "الإسلاميين" منها، وهم كذلك لا يقاومون من منطلق سلطة ولا دفاع عن حكم، وإنَّما لتحرير البلاد اليوم من مصَّاصي الدماء هؤلاء، ونقطة.
لكنَّ الحرب طالت، والمعركة ما زالت مستمرَّة رغم ما أُنهكت به غزَّة من نحو خمسين ألف شهيد ومفقود، ومائة ألف جريح، وحصيلة هائلة قد تكون الأكبر في تاريخ البشرية من حيث حجمها بالنسبة إلى حجم المكان الذي وقعت فيه، ومع ذلك ما زالت تقاوم، وما زال أهلها يصمدون -رغم مرارة كلمة الصمود وضيق الصدر بها مع كلِّ تلك الجراح النازفة- وما زال شبَّانها يحملون الياسين على أكتافهم، ويخلصون ثأر المدينة مع غزاتها، ويلعنون أصل كلِّ دبَّابة وجرَّافة وضابط وجندي، فلا يبقون "إسرائيل" كما كانت، القوَّة التي يتغنَّى بها خصومها الحمقى، قبل أن يتغنَّى بها مستوطنوها، بل يمرِّغون كلَّ تلك الأوهام في رمال القطاع الجريح المغوار.
فعل الاحتلال كلَّ شيء، وما زالت غزَّة باقية لم تمت، لم تنتهِ، لم يهرب أهلها جنوبًا تاركين إيَّاها، حتَّى أهل الشمال أنفسهم لم يهرب نصفهم جنوبًا نحو غزَّة نفسها
فعل الاحتلال كلَّ شيء، وما زالت غزَّة باقية لم تمت، لم تنتهِ، لم يهرب أهلها جنوبًا تاركين إيَّاها، حتَّى أهل الشمال أنفسهم لم يهرب نصفهم جنوبًا نحو غزَّة نفسها، وإنَّما بقوا مستمسكين بأماكنهم، يستشهد كثرٌ منهم في غرفهم قتلًا وذبحًا وجوعًا وعطشًا، على أن يتركوا الجمر الذي يأكل أجسادهم، لأنَّهم يرون أرواحهم تهون من أجل وقوف أجسامهم وثباتها على ذلك الثغر الكريم.
تسعة أشهر، وأنظمة "شقيقة" تنتظر الخبر نفسه منذ أوَّل يوم، أزعجهم السابع من أكتوبر وصدم قلوبهم وعيونهم، لكنَّهم قالوا: "لعلَّه خير"، ولعلَّ "براقش" جنت على نفسها، فتكون تلك نهايتها، ونحلَّ ذلك الصداع المزمن، فيُقضى على المقاومة ويوضع الفلسطينيون بين اللاخيارات المختلفة، التي كلٌّ منها أكثر ذلًّا من الآخر، وتبقى فلسطين أرضًا لدولتين: دولة "وليدة" هي فلسطين على نحو 10% من الأرض، و"دولة" قائمة بالفعل هي "إسرائيل" على البقية، كأنَّ "فلسطين" هي ذلك السرطان الذي تحاول الأنظمة لفظه من المحيط العربيّ، لا العكس!
لكن على النقيض تمامًا، بات العالم يعرف هتافًا جديدًا اسمه "من البحر إلى النهر"، هو الذي يرجو ما لم تكن المقاومة نفسها تتخيَّله قبل عام من الآن، وما لم يكن يتوقَّعه العالم كلُّه في يوم من الأيَّام، بأن تصير قضية فلسطين عالميةً إلى هذا الحدِّ، حتَّى ولو ظنَّ الواقفون على ذبحها، المتآمرون على وأدها، أنَّهم تمكَّنوا منها يومَ خربشتهم بمخالبها في أكتوبر، وأنَّهم حيَّدوها عن ذلك الوجود الضيِّق المهدَّد، لكنَّ الواقع كان أكبر ممَّا تخيَّلوه بكثير، وباتوا هم القلَّة المنبوذة التي تتعشَّم عشم إبليس في الجنَّة!
لم يأتِ الخبر الذي ينتظره هؤلاء الزعماء والساسة والأنظمة، وتحوَّلت غزَّة ليست إلى منطقة منكوبة في أذهانهم، بل إلى "عبء" سيستمرُّ طويلًا للأسف، يؤرِّق مضاجعهم من جديد، ويُلهم شعوبهم ذات صباح، ويطاردهم في أحلامهم كلَّ ليلة، وإلى حساب ثقيل آخر بين الحكَّام وشعوبهم، حين تحين لحظة الثأر المقدَّس، والثورة الكبرى.