غزّة.. والضوء الذي في آخر النفق
شمس فلسطين مغطاةٌ تمامًا في الفضاء، والسماء ملبّدة بالغيوم، والطرق ممهدةٌ لترك الأرض، مهدّدةٌ إذا أردت البقاء بها، والمجنزرات تحفر في الطين آثار أمشاطها الفولاذية القاسية، وعلامات أحذية الجنود تطبع قبحها فوق حقول الزيتون وفي الفراغات بين شجر البرتقال، وأصوات الصلوات المزيّفة على الحائط تشوّش على صوت الأذان الصادق في الأجواء والداخل، وموجات اللاسلكيّ المعلّق على بزات الجنود تقطع ضحكات الأطفال اللذيذة المطبوعة ببراءة من عميق قلوبهم، والخريطة الكبيرة المستلقية في دلال وجلال بين شاطئ البحر وضفة النهر تلوّثها فضلات قذرة ألقتها القارات المجاورة في وقاحة منقطعة النظير، وإسطبلات الخيول، وعرائن الأسود، اقتحمتها قطعان من الخنازير كريهة الرائحة. الأمر بين يديك، ماذا كنت لتفعل؟
أحدهم قرّر أن يمسك فأسه، لا ليزرع الأشجار، ولا ليقتلع الثمار، ولا ليغرس البذور في رحم الأرض، لو كان ذلك لتوقف عن الحفر يومًا، لكنه منذ عقود منحنٍ، عيناه مثبتتان على التربة، وجسمه يهبط تدريجيًّا حتى يختفي تمامًا، وصوت الفأس الذي كان يعلن كلّ حين عن ارتطامه بصخرة قوية زال صوتُه من الوجود، وذلك الرجل الذي اندثر أثره تمامًا، وكانوا يظنونه يزرع حقله، لم يكن يفعل ذلك، وإنّما اكتشفوا، بعد تجلّي بعضه فجأةً، أنه يزرع ثأره.
تحت الحقل وضربات الفأس دربٌ معتم، ظلماته بعضها فوق بعض، إذا أخرجت يدك لم تكد تراها، تحفر في الصخر، وتنحت في الجبال، وتسلك سبيلًا إلى الأسفل، متعمقًا في باطن الأرض، تكتشف طبقات جديدة تحت قشرتها، وليس ذلك من علم الأركيولوجيا، ولا الجيولوجيا، ولا علم المعادن، وإنّما من علوم النضال، والجهاد، والقتال، والدهاء الحربيّ، والتخطيط العسكريّ، والإعداد المضني، لمعارك قرّرت وحدك أن تخوضها، بصدرك العاري، بلا جيوش، ولا عتاد، ولا صفقات تسليح، ولا طائرات إف 35، ولا دبابات ألمانية الصنع، ولا دفاعات جوية روسية، أنت فقط، من تملك السواعد التي تقاتل بها، والسواعد فقط، وما تنتجه على قدر بحثك وعلمك ومعجزات الله لك، هي كل ما تملكه، لتقاتل.
علمتهم الأنفاق، أن النور الذي في صدورهم هو أول الصباح، والنار التي في صدورهم هي أول الشرر
عشرات الآلاف من الشجعان، من أبناء هذه الرمال وذلك الوحل، من خليط الماء بالتربة، قرّروا التضحية بأعمارهم، والإنفاق من صحتهم، والبذل من عرقهم ودمائهم، حتى يصنعوا المستحيل بالأسفل، بعيدًا عن عيون الناس، عن ثناءاتهم ومدحهم وأشعارهم، صامتين، ولا صوت يعلو فوق صوت الإعداد للمعركة، والظلمات مستمرة، والقناديل هي عيون الحفّارين لا غيرها، والأعماق تحبس الأنفاس في الصدور، لكن استنشاق الثأر يهوّن المسألة ويحل المعضلة.
شبانٌ وشيوخ توحّدهم الهمّة على اختلاف قدراتهم وأعمارهم، لكن رُبّ ضربة شيخ بسيف أشدّ من طعنة شابٍّ بخنجر، ولعلّ رمية هزيل بنيةٍ بالآر بي جي أشدّ من قذيفة جندي مدجج بالسلاح، مدرّب، محصّن من قلب دبابة، هكذا علمتهم الأنفاق، أنّ النور الذي في صدورهم هو أوّل الصباح، والنار التي في صدورهم هي أوّل الشرر، والذي يبحث عن شعلةٍ فعليه ألا يكتفي بالشموع، وإنّما يبحث عنها بين رؤوس الصواريخ المتفجرة، والدبابات المشتعلة، وأنّ النفق المعتم تحت عشرات الأمتار، في فوّهته يكمن الضوء، فقط عندما يؤدي إلى دبابة محترقة!
ربّما لا يؤمن الكثيرون بكلام المسكِّنات عن الضوء الذي في آخر النفق بحياة كلّ إنسان، وربّما لا يصدق المتحدث لأنّ حياة أحدنا ليست عبارة عن نفق حتى يجد الضوء، إلا قليلاً. أمّا هؤلاء، فقد فعلوها حقيقةً ولم يكتفوا بالمجاز، وحينها وجدوا بالفعل ضالتهم، وضالتنا، وأثبتوا لنا بالدليل العملّي، كيف وجدوا الضوء حقًّا في آخر النفق، ليس لأنّهم وجدوه قدرًا ولا مصادفةً، ولكن لأنّهم هم من أسرجوه، بفوهةٍ تقابل فوهةً فتقيّد نيرانها، أو فوهة تؤدي مباشرة نحو فوهة السماء، أو كما يقول الرجل الذي يطلّ علينا بنور عينيه من عتمة النفق كلّ عدّة أيام طوال الحرب: إنه لجهاد، نصرٌ (فوهة الأرض)، أو استشهاد (فوهة السماء).