فرز النفايات صدقة جارية
لم يكن هذا موجوداً فعلاً في لبنان. على الرغم من كلّ ما مرّ ونمرّ به من مآسِ قادت بعضنا إلى إطلاق النار على رأسه تخلّصاً من الديون، أو يأساً من تحسّن الأوضاع بعدما حاول كلّ شيء وانتظر مُدَداً طويلة دون بارقة أمل.
هم أكثرنا هشاشة، أولئك الذين لم يعد باستطاعتهم الإيفاء بوعودهم لعائلاتهم بالعودة مساء محمّلين باحتياجاتها، فاختاروا المغادرة، تاركين في قلوبنا حسرة لجهلنا بوجودهم تارة، أو عدم تمكننا من مساعدتهم "تارات" أخرى.
فالأزمة الاقتصادية التي ينوء تحت ثقلها غالبية المواطنين تمنع من يريد منهم، وهم كثر، من تلبية واجب بسيط في تكافل اجتماعي قد ينقذ حياة أو أكثر.
هكذا، تكاثرت بشكل كبير حالات الانتحار. ولا أعرف إن كان يمكن أن نسميها فقط وببساطة: حالات انتحار! كون العديد منها تسبقه جرائم قتل يرتكبها المنتحر لاحقاً، لأولاده وزوجته، أو لأولئك المتعلّقة حياتهم بقدرته أو قدرتها على تأمين العيش لهم.
ومنذ أيام، قرأت تقريراً صادراً عن "الدولية للمعلومات"، قالت فيه إنّ حالات الانتحار في لبنان تزايدت بنسبة 65 بالمئة عن السنة الماضية. والإحصاء قامت به المؤسسة معتمدة فقط على تقارير لقوى الأمن الداخلي، أيّ بتعبير آخر للحالات التي سجلتها المخافر كحالات انتحار. ويلاحظ التقرير أنّ ذلك العدد قد يكون، وهو كذلك على الأرجح، أقل من العدد الفعلي لحالات الانتحار. كون الكثير من العائلات لا تُعلن عن المنتحرين من أفرادها، خوفاً من المعايرة حيناً، أو تخوّفاً من تمنّع بعض رجال الدين عن الصلاة على المنتحر قبل دفنه، وبالطبع هناك أسباب أخرى لا مجال لتحليلها هنا.
وإن كان الانتحار خياراً يتخذه الأكثر هشاشة بيننا، فهناك "خيارات" أخرى يتخذها من هوت بهم الأزمة الاقتصادية إلى قاع المجتمع. هكذا، كثرت أعداد المتسوّلين في الشوارع. ولأوّل مرّة ربما، بتنا نشاهد متشرّدين يشبهون متشرّدي البلدان الصناعية والغنية، ينامون في الشوارع أو في مداخل العمارات، تفوح منهم روائح كريهة، ولا يخشون أو يخجلون من المارة، ولا يجيبونك، حتى إن سألتهم عمّا تستطيع أن تفعله لهم. كأنما الجواب وحده بات يستنفد منهم طاقة لم تعد موجودة، أو كأنهم يعلمون مسبقاً أنه لا فائدة من الجواب.
لأوّل مرّة ربما، بتنا نشاهد في لبنان متشرّدين يشبهون متشرّدي البلدان الصناعية والغنية، ينامون في الشوارع أو في مداخل العمارات
وإلى جانب أولئك، كَثر عدد المتسوّلين، أو لأقل طالبي النجدة، من كبار السن. تراهم يتوكأون على عصا كبرهم، أو يقفون خجلين بجانب صيدلية ما، يتردّدون في الاقتراب والسؤال، أو يحملون كيساً بلاستيكياً فيه علب أدويتهم الفارغة التي لم يعد باستطاعتهم شراؤها. يقرّبونه قليلاً من المارة، وقد وضعوا فيه أوراقاً نقدية في إشارة خجلة إلى طلبهم. هؤلاء يقضمون قلبي ألماً، ولا أعرف ما الذي باستطاعتي فعله لهم غير مدّ اليد ببعض المال، أو بشراء أحد تلك الأدوية من الصيدلية، إن توّفر ثمنها معي في إنقاذ مؤقت، وهو شيء قليل لدرجة مخجلة ومؤلمة.
بالطبع، كثرت أيضاً عصابات التسوّل، أولئك الذين يمتهنون الشحاذة كعمل فعلي يقضون فيه دواماً كاملاً. لكن طلباتهم تغيّرت. فهناك تعرفة جديدة للتسوّل تكاد تُدرَج على منصة صيرفة، أي المنصة التي أوجدها حاكم المصرف للتحكّم بسعر الصرف. فقبل الأزمة، كانوا يطلبون ألف ليرة أو خمسمائة فقط (أقل بقليل من دولار)، أما اليوم فلم تعد "توفّي" معهم. صاروا يطلبون صدقة عينية تبدو معقولة، لكنها فعلياً ليست كذلك: يطلبون ربطة خبز تجاوز سعرها الخمسين ألف ليرة. رفع المتسوّلون الدعم عن الصدقة أكاد أقول. يكادون يجادلون بأحقية تسعيرتهم المرتفعة: وما هي الخمسون ألف ليرة؟ إنها تساوي بالكاد نصف دولار "فريش"!
وإلى جانب كلّ أولئك، كثر المنغمسون في استخراج ما في مكبات القمامة من كرتون وبلاستيك، زجاج أو ألمنيوم، ومن يتعيّشون من فرز النفايات وبيع ما يستخرجونه منها إلى تجار الخردة. هذا خيار آخر.
ازداد عدد هؤلاء بشكل كبير، عائلات بكاملها بالزوجات والأولاد، بينهم أطفال صغار السن لا تتجاوز أعمارهم السنوات الست أو السبع، تراهم يدخلون المستوعب متسخين ويخرجون أكثر اتساخاً. تتساءل عن خطورة ما يفعلون على صحة الصغار ونموهم. تستغرب أولاً ثم تحزن لرؤية أهاليهم معهم، يقومون بما يقومون به تحت أبصارهم العاجزة عن حمايتهم من هذا الفقر الفظ. تتمنى، كالكثيرين، أن تساعد بشكل ما هذه العوائل ليستطيع الأطفال أن يكبروا بصحة جيدة على الأقل، فلا تجد سبيلاً إلى ذلك.
هؤلاء اختاروا أن يكافحوا الأزمة عبر العمل، ولو في مهنة صعبة وخطرة. وهذا لا شك أفضل بكثير من الانتحار جماعياً، قتلاً كما أورد التقرير، أو هجرة في قوارب الموت، أو تسوّلاً.
كثر المنغمسون في استخراج ما في مكبات القمامة من كرتون وبلاستيك، زجاج أو ألمنيوم...
بهؤلاء تحديداً فكرت: لمَ لا نعاونهم على الأقل بتسهيل عملهم من جهة وحمايتهم بحدّ أدنى؟ كيف ذلك؟ على الأقل بفرز تلك النفايات التي يغوصون فيها من أجل فرزها. نضع كلّ ما يمكن إعادة تدويره في كيس منفصل: الزجاج والبلاستيك والكرتون والألمنيوم كلّ نوع على حدة، وبقايا الطعام والأشياء الأخرى في كيس منفصل.
ولمن لا يعلم، فللنفايات سوق هامة جدا في البلاد التي تعرف استغلالها. في مصر مثلاً، هناك صناعة كاملة تقوم على فرز النفايات ويعتاش ملايين الفقراء من ورائها، ولقد قامت بتدريبهم على الاستفادة منها جمعيات محلية تعنى بالبيئة وبالتنمية. لا بل إنّ بلدانا عدّة عرضت على لبنان الذي لا يفرز نفاياته أن تشتري منه هذه النفايات التي تنتج الطاقة وتوفر على الصناعات التي تستخدم البلاستيك والزجاج والكرتون جزءاً من كلفة المواد الأولية. وحتى إنّ شركات كبرى في لبنان، أعلنت أخيرا عن رغبتها بشراء النفايات المفروزة من الأفراد، ولقد تجاوب الكثيرون معها. ما عليك إلا أن تفرز نفاياتك وتحملها إلى الشركة التي تقوم بوزنها وإعطائك ثمنها. فلمَ لا نفعل؟
هناك مفهوم في الإسلام أحبه كثيراً هو مفهوم الصدقة الجارية. وتعريفها أنها عمل خير ينتج عنه دوام الخير للناس: كبناء مدرسة مثلاً، أو حفر بئر لقرية عطشى... إلخ.
وبما أنّ ذات يدنا قصيرة هذه الأيام بسبب الأزمة، فلمَ لا نقوم بفرز نفاياتنا حماية لفقرائنا وأولادهم من المرض ومعاونتهم من حيث لا يدرون؟ أليس ذلك بمثابة صدقة جارية؟ لا أدري. لكنه لا شك أضعف الإيمان.