فلسطين ليست غزة
أما المتغير الثاني فتمثل في "تخابر" المخابرات المصرية مع الجارة الحمساوية، والذي عكس تحولاً دراماتيكياً في الموقف الرسمي المصري، وكشف عن مقاربة جديدة للقاهرة في تعاطيها مع الملف الفلسطيني، على الأقل في النسخة الحالية من مشروع المصالحة الفلسطينية.
هذا العاملان سرّعا من عجلة المصالحة، لكنهما لم يكونا سبباً فيها، فقد بدا واضحاً للمراقب أن واشنطن وتل أبيب رفعتا الفيتو الذي أفشل مصالحات سابقة، إذ أرسلت واشنطن وتل أبيب منذ فترة إشارات واضحة للقاهرة برغبتهما في أن تمضي قدماً في إحداث اختراق يفضي إلى انفراجة مرحلية في الملف الفلسطيني، تنفس الاحتقان القائم الذي تزداد الخشية يوماً بعد يوم لدى دوائر صنع القرار في تل أبيب من أن يفضي لانفجار، هي المتضرر الأول منه إن حصل، كما ترى واشنطن أيضاً أن الأوضاع في الإقليم لا تحتمله، فيما القاهرة وصلت لنتيجة أنه لا يمكن السيطرة على الأوضاع الأمنية في سيناء من دون تعاون أمني وثيق مع حماس، وذلك بعد فشلها في التعامل مع الوضع هناك، وتحول سيناء لحرب استنزاف يدفع الجيش المصري ثمنها باهظاً.
ولعل العاملين الذين أشرنا لهما أعلاه، - التحول في قيادة حماس والتغير موقف القاهرة - هما الركيزتان الأساسيتان في تسريع عجلة المصالحة الفلسطينية الحالية. ففي الشق المتعلق بحماس بدا واضحا التأثير الكبير للتحول في ثقل القيادة لصالح الداخل، سواء في الأولويات أو في التعاطي مع ما كان محرمات في الأمس، كالتقارب والتحاور مع تيار محمد دحلان.
كذلك بدا هذا التغير في القرار المفاجئ بحل اللجنة الإدارية الذي دلل على أن قيادة الداخل هي من يمسك بزمام القيادة والقرار وأنها باتت قادرة على اتخاد قرارات سريعة، دون المرور بالدوائر الحركية الطويلة التي كانت معتمدة في السابق. وتبدو أوليات الداخل مغايرة لتلك التي كانت تشغل قيادة الخارج، فالحاجات الأساسية اليومية من كهرباء وماء وصحة، تبدو أولويات لدى "حماس الداخل" التي تئن تحت وطأة حصار جائر تجاوز عشرة أعوام، وترافقت ذكراه العاشرة مع حصار لحلفائها رافقته هرولة عربية رسمية نحو التطبيع وإنجاز ما بات يعرف بـ "صفقة القرن"، وكلها عوامل إقليمية ودولية تعقد من ميزان القوى، وتزيد من محدودية خيارات الحركة.
لكن مع التفهم والإقرار بمشروعية هذه الأولويات إلا أن من حق المراقب فلسطينياً كان أو غير فلسطيني أن يشعر بالقلق إزاء تعامل القيادة الجديدة مع الصراع وتقزيمه من قضية تحرر وطني، وعودة اللاجئين والقدس وإقامة الدولة، إلى قضايا فرعية كالرواتب والموظفين والمعابر. ومع استحضار التاريخ القريب وتجارب الشقيقة الكبرى فتح، يصبح مشروعاً الشعور بقلق إضافي من أن حماس تعيد من حيث لا تدري تجربة فتح من الثورة إلى السلطة، والتي قزمت أحلام الفلسطينيين من "الثورة حتى النصر" إلى "السلام الاقتصادي"، وترقب تحويلات واشنطن ومنحها المالية، فيما بات يعرف بـ"الفلسطيني الجديد".
صحيح أن إكراهات السياسة والجغرافيا حدّت من خيارات الحركة وقدرتها على مواصلة الصمود، وفاقمت الإجراءات الأخيرة لأبو مازن بقطع الرواتب ووقف التحويلات الطبية من معاناة قطاع غزة، إلا أنه يبقى ضروريا التذكير دوما أن القضية الفلسطينية ليست غزة وأن على حماس التي عرفت نفسها في الميثاق الأخير المعدل بأنها "حركة تحرر وطني ومقاومة" أن لا تختزل القضية في القطاع، وألا تحتكر القرار الوطني داخله، لأن التجارب الفلسطينية تثبت أن هذا المسار هو بداية التيه.
وبنظرة فاحصة لأداء "حماس الداخل" فقد حرصت القيادة الجديدة للحركة على الظهور في صورة من يأخذ زمام المبادرة، وعدم الاكتفاء بردة الفعل كالسابق إزاء ما يقدم لها من عروض، وهو الأمر الذي ظهرت معالمه جلية في انفتاحها على التيار الدحلاني، وصولاً لما سمي بهجمة دبلوماسية باتجاه رام الله توجت بقرار حل اللجنة الإدارية المفاجئ، كلها مغامرات كلفتها ستكون باهظة إن لم تكن محسوبة بدقة.
صحيح أن التفاؤل محمود ومطلوب، وأن على المراقب ألا يغفل إيجابية التقارب الأخير بين كل الأطراف، إلا أن التشكيك والحذر يجب أن يبقى هو سيد الموقف كما يقال. فطريق المصالحة لا يبدو معبدا بالكامل، بالنظر للألغام التي تكتنفه كمسألة سلاح المقاومة، وموظفي المعابر، فكل المجاملات التي شهدها خلال الأسبع الماضي بين الحركتين لن تغير من قناعة الرئيس عباس نفسه، وهو الذي عبر مرارا عن رفضه خيار المقاومة والانتفاضة، وحصر خياراته في "المفاوضات" كخيار واحد ووحيد، فهل هذا التقارب هو شيك أبيض حمساوي للرجل بالمضي قدما في مشروعه؟
هذا من الجانب الفلسطيني. أما من الجانب المصري، فيبدو مشروعا التساؤل عن حقيقة التزام القاهرة بالوفاء بما تعهدت له، والكفّ عن سياسة المناكفة والتضييق التي انتهجتها سابقا.
دوليا، يبدو أن واشنطن أعطت ضوءاً أخضر للمصالحة، لكن لا ضمانة لرضوخ الجميع أخيراً للفيتو الإسرائيلي إن قررت تل أبيب قلب الطاولة على الجميع، ورفع الفيتو من جديد، كما أن قلق المراقب من مآلات هذه المصالحة مشروع أيضا بالنظر للأطراف الإقليمية التي ترعاها، وأجندتها، ومآلاتها.
الأهم والأبرز بتقديري هو ضرورة قراءة التحول الخطير في رؤية "حماس الجديدة" في غزة لأوليات الصراع وإدارته في هذه المرحلة المهمة من تاريخ القضية الفلسطينية. إذ يبدو أن القيادة الجيدة للحركة اختزلتها في المسائل الحياتية اليومية، والتي رغم التفهم لها ولحجم المعاناة التي يقاسيها سكان القطاع جراءها، إلا أن رفع حركة تحرر وطني لهذه المطالب كأولويات ومطالب تعكس عجزها وقصور برنامجها عن قيادة مشروع وطني تحرري، ورضوخها لإكراهات اللحظة دون النظر في استراتيجيات صراع بعيدة المدى، وفي حالة حماس فإن تقزم مطالبها إلى هذا الحد يعكس حجم التأثير الذي رافق التغير في قيادة الحركة من جهة، كما يعكس إكراهات السلطة وكم دفعت الحركة ثمنها باهظا لها على مدار العشر سنوات الأخيرة، وأخيرا هو دليل واضح على حجم التراجع الذي أصاب مشروع الربيع العربي، ودوله، وحجم التآمر الإقليمي والدولي عليه.
ورغم اشتداد الحصار والعداء الإقليمي والدولي، يجب على حركات التحرر الوطني أن تواصل نضالها وتطلعها لتحقيق هدفها الأسمى بالتحرير وألا ترتهن لمعادلة اللحظة وظروفها، ونستذكر هنا أبو عمار ـ ياسر عرفات، والذي لم تكن مطالبه وهو محاصر في المقاطعة فك حصار اللحظة، بل بقي حتى آخر لحظة قبل استشهاده ينشد "عل القدس رايحيين شهداء بالملايين" في تحدٍ معنوي لمحاصريه، ولعب على وتر الحرب النفسية بأنه لن يرضح لإكراهات اللحظة، بعد أن دفع باهظا في السابق ثمن أوسلو؛
فعلى حماس وفتح والكل الفلسطيني ألا يقزموا المشروع الوطني الفلسطيني بحصره في "رواتب وموظفين". الصراع مع المحتل هو أصل المسألة وقضيته قضية تحرر وعودة واعتراف دولي بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ووقف كل أنواع العربدة الإسرائيلية، ففلسطين ليست غزة، ولن تكون.