في الحاجة إلى "عصر تدوين" جديد
سبق أن عبّر المفكر محمد عابد الجابري عن رغبته في إعادة بناء شاملة للفكر العربي، بهدف تدشين "عصر تدوين" جديد يقطع مع الطريقة التي عُولجت بها قضايا النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر. ماذا يقصد الجابري بهذه الفكرة؟ وما الذي يجعلها ذات أهمية بالغة، إن لم نقل استراتيجية، في رؤيته الفكرية؟
يقول في هذا الصدد: "إنّ التطوّرات والتحوّلات التي شهدها العالم في السنين الأخيرة، بما فيه الوطن العربي نفسه، توازن من حيث الأهمية التاريخية بالنسبة لمستقبلنا تلك التطورات والتحولات التي شهدها "عصر التدوين" التراثي بالنسبة لماضينا، و"عصر التدوين" النهضوي بالنسبة لحاضرنا" (محمد عابد الجابري، "وجهة نظر"، مركز دراسات الوحدة العربية، 2015، ط.5.ص.12).
نلاحظ هنا أنّ الجابري أشار إلى عصرين أو مرحلتين من التدوين في تاريخ الثقافة العربية، وكلّ واحدة منهما مرتبطة بمعطيات العصر الذي أنتجها، فالعصر الأول يتطابق تاريخيا مع العصر العباسي الأول، الذي شهد عملية تدوين ثقافية وتأسيسية كبرى، أصبحت، مع مرور الزمن، مؤطرة للذهنية العربية إلى أن فرضت عليها سلطة فكرية مؤسسة لبنيتها، وهي السلطة التي حلّل الجابري نشأتها وعناصرها ومفاهيمها. دُشّنت إذن هذه العملية التدوينية الأولى من خلال وضع "أصول" للتفكير الفقهي والكلامي، ثم "أصول أخرى" امتدت إلى مجالات السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة... إلخ. بعد ذلك استمر الاجتهاد، لكن داخل نفس الإطار الذي يفرضه نمط الحياة الاجتماعية التي صنعت تلك الأصول.
أما العصر التدويني الثاني فقد انطلق مع عصر النهضة العربية الذي شهد، هو الآخر، عملية ثقافية تدوينية جديدة تقوم على أساس التأويل والاقتباس من الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة، بهدف توظيفها من أجل الانبعاث والنهوض. هذا الأمر ساهم في مراكمة "أصول" حديثة مختلفة تسعى إلى تعويض الأصول التراثية وتشكيل بديل عنها، الشيء الذي جعلها تبدو، وكأنها تحدث قطائع فكرية مع مرجعية عصر التدوين التراثي في محاولة لتفكيك سلطاته الفكرية.
هكذا إذن تطورت الأمور إلى أن صار الفكر العربي المعاصر يعيش صراعاً بين مرجعيتين: إحداهما تنتمي إلى الماضي والأخرى تنظر إلى المستقبل، صراع شوّش الرؤية وشّل الحركة، الشيء الذي يتطلب ضرورة عصر تدوين جديد، وهو ما يدعونا الجابري إلى تدشينه من خلال عمل إبداعي، جماعي تراكمي يتجاوز مرحلة الاستهلاك إلى الإنتاج، لأننا ما زلنا، في نظره، لا ننتج الجديد، بل نكتفي فقط بإبداء الرأي في ما نستهلكه. يقول في ذات السياق: "أعتقد أنّ الواجب يفرض الآن التفكير في تدشين مرحلة الإنتاج، مرحلة تجاوز النقد... مرحلة الإبداع من أجل لحظة الوصل مع تراثنا، مرحلة تبين الحلول للمشاكل.. الحلول النظرية والإيديولوجية" (محمد عابد الجابري، "مواقف"، دار النشر المغربية، العدد 19، 2003، ص.70).
ثمّة حاجة ماسة إلى عصر تدويني جديد يعمل على توضيح الرؤية، ويساعد، في نفس الوقت، على تصفية الحساب نهائيا مع الرؤى القديمة التي تُكبل العقل وتحرّف الفعل
لحظة الوصل هذه صعبة ومريرة لكنها في غاية الأهمية، لأنها تجيبنا عن السؤال المُغيّب: كيف ننفصل عن عصر التدوين التراثي لكي نعيد ربط الاتصال به من جديد وبشكل جديد، وهذه العملية لا يمكن أن تتأسّس من فراغ، بل من خلال قراءة التراث في ضوء المناهج والمفاهيم الحديثة لتدوينه من جديد بهدف بلورة أرضية فكرية معاصرة، تفتح الأفق أمام أسئلة جديدة وتُقدّم لنا مجالات للبحث تساهم في تأطير اتفاقاتنا واختلافاتنا. ولهذا تكتسي هذه العملية التدوينية الجديدة أهمية بالغة، إن لم نقل استراتيجية، في رؤية الجابري الفكرية، بالنظر إلى ما جرى ويجري داخل الساحة الفكرية والسياسية العربية من صراعات، منفلتة من عقالها، والتي لا تكاد تخفت حتى تشتد، وأحيانا تنفلت إلى آثار عنيفة ومدمرة تُضعف المجتمع والدولة وتُفكّك النسيج الاجتماعي كما تجلّى ذلك بوضوح في "أحداث العشرية الأخيرة". أقول إن مثل هذه الصراعات بين كلّ المطالبين بالتغيير في عالمنا العربي تتطلب، من منظور الجابري، رؤية فكرية كإطار مرجعي جديد نعود إليه من أجل الاتفاق والاختلاف، لأنه لا فعالية لأي عمل مشترك دون هذه الرؤية التي تضع الحد الأدنى للتفاهم والتفهم، ومن هنا الحاجة الماسة لعصر تدويني جديد يعمل على توضيح الرؤية، ويساعد، في نفس الوقت، على تصفية الحساب نهائيا مع الرؤى القديمة التي تُكبل العقل وتحرّف الفعل.