في لغم "صناعة المحتوى"
عزيز أشيبان
يسمّونهم "صنّاع المحتوى".
لا أدري، وأظن أنّي لست الوحيد الذي يسأل: كيف نزل علينا هذا المصطلح دون سابق إنذار؟ وكيف تمّ ترويجه بسرعةِ البرق إلى أن صارَ تداوله أمرًا طبيعيًا واعتياديًا، ولا تعترضه رقابة فكرية ذاتية أو قيود. ربّما، نحن أمام أمر دُبّر بليلٍ من أجل حاجةٍ في نفس يعقوب، غير أنّ الميل إلى هذه المقاربة يمثّل نزوعًا نحو الاختزالِ والتسرّع، وتوظيفًا لنظريةِ المؤامرة في تبريرِ ظاهرةٍ متعدّدةِ الأبعاد والمحاور، وبالتالي ابتعادًا عن الأسباب الحقيقية. قد تكون الظاهرة تجليًّا من تجليّات واقع التراجع والتضعضع والتقلص ونتاجًا منطقيًا لمدخلات عقود من الزمن.
من دون شك، من حقّ كلّ إنسان التعبير عن رأيه ومشاركته مع الآخرين، لكن في عملية تحويله إلى مؤثّر، نستشعر الخطر والارتياب بما يدفعنا لطرح الأسئلة. حقيقةً، إنّ الحديث عن مؤثّر والترويج للمادة التي يقدّمها هما استسلام تلقائي لما نستقبله ويستهدفنا من مضامين دون احترام حريّة الاختيار أو الاحتكام إلى حسٍّ نقديٍ أو تحليلي. ويبدو أنّه مصطلح سلس لكنه مفخّخ، حيث يُوظّف بطريقةٍ سيميائيةٍ تُبطن من المخاطر ما يصعب احتواؤه والسيطرة عليه.
يُحيلُ مصطلح "صناعة" إلى عمليةٍ مركبةٍ عبر مراحل مسترسلة، تستنفد ما لا يُستهان به من الجهد والتركيز والانضباط والتأنّي والمتابعة من أجل إنتاج أحسن ما يُمكن إخراجه للعموم مع طرح الأسئلة والإقبال على الحسابات والاحتمالات الممكنة كما هو الحال بالنسبة "لصناعة القرار". في حين يُحيل مصطلح "محتوى" في هذا المقام على كلّ مادةٍ مكتوبةٍ أو مرئيةٍ أو مسموعةٍ على موقعٍ إلكتروني معيّن دون الخوض في نوعيتها وجودتها. لذلك فليس المقصود حتمًا بالمحتوى مادة فكرية أو أدبية أو فنيّة من إنتاج المفكر والفيلسوف والكاتب والصحافي والفنان... بل الأمر غير محدّد وصعب المقاربة والتقنين.
تمثّل الخطابات الشعبوية والميول نحو السطحية وعاء المادة في بحثٍ نابعٍ عن الهوس، على استقطابِ أكبر عدد من المتابعين والمشاهدين دون اكتراث لجودةِ ما يُقدّم أو انفتاحٍ على النقد
على مستوى اللغة المُوّظفة، تمثّل اللغة وعاء الفكر الرصين، حيث يغتني الاثنان وتتفاعل معهما مجموعة من الحقول الفكرية مولدةً الحركية ومساهمةً في مسار الإقلاع والتنمية. وفي صناعةِ المحتوى تمثّل الخطابات الشعبوية والميول نحو السطحية وعاء المادة في بحثٍ نابعٍ عن الهوس، على استقطابِ أكبر عدد من المتابعين والمشاهدين دون اكتراث لجودةِ ما يُقدّم أو انفتاحٍ على النقد من أجل التطوّر والارتقاء في غيابِ أيّ نسقٍ جاد أو مقاربة نابعة عن رؤيةٍ هادفة. لذلك فهي تسطو على منابر التواصل الاجتماعي مخاطبةً غرائز الكسل والتواكل والانتهازية من أجل الانتشار والتوغّل، وتتفوّق في ذلك عندما تلج بيئة ينهشها الجهل واليأس وسقوط القيم.
في كتابةِ نصٍّ هادفٍ من روايةٍ أو قصّةٍ أو قصيدةٍ أو مقال أو تدوينةٍ ثمّة معاناة ومكابدة وبدل جهد تستنزف الكثير من تركيز وقراءة الكاتب الذي يظلّ همّه الأوّل هو جودة ما يقدّمه من أفكار أو مشروع فكري في ظلال بناءِ فكري متين. العكس تماما يحدث مع "صناعة المحتوى" التي تستجيب لمعايير بعيدة جدّا عن الجديّة والعمق والبحث عن الحقيقة، وتهتم فقط باستقطاب أكبر عدد من المتابعين.
نرى الظاهرة في غاية الخطورة لما تحمله من تهديدٍ بأبعادٍ متعدّدةٍ ومتشابكةٍ، تهديد يستهدف في المقام الأول أنماط التفكير الفردية والجماعية ويجهز على الإدراك الجماعي. ونقتصر في هذا المقام على الإحالة على المخاطر التالية: تكريس فوضى المفاهيم والتصوّرات، ترسيخ اليقينيات والمسلّمات، البحث عن المعرفة السريعة والإقلاع عن البحث الجدي والحذر، استهداف الحسّ النقدي، الإجهاز على الذكاء البشري والإبداع، تفشّي العبودية الرقمية وفي أحضانها رزمة من العبوديات في ظلّ الاستبداد، العجز عن اتخاذ القرار، شيوع التفاهة والرداءة، الإجهاز على الذوق العام، ضرب القيم الهادفة وتنشيط قيم الهدم، كما تغدو التقنية القائد الذي يقرّر ويرى ويُبصر ما لا يبصره الآخرون.