في مسؤولية الذات المجروحة أو المهزومة

02 أكتوبر 2024
+ الخط -

في تدوينتي السابقة، تحدثت عن الانتقال، في الفلسفة وتاريخها، من الكوجيتو (الديكارتي) الدوغمائي المعتد بنفسه إلى الكوجيتو (الريكوري) المجروح؛ وبيَّنت بعض أهم الاختلافات بين (مفهومي) الكوجيتو المجروح والهوية المجروحة.

والاختلاف الأكثر أهمية، في السياق الحالي، يتمثل في علاقة كل مفهوم مع مفهوم المسؤولية. فعلى الرغم من أن الكوجيتو المجروح يقر، مع الهوية المجروحة، أنه حصيلة أوضاعٍ وأحداثٍ وأفعالٍ وصيرورةٍ لا يستطيع السيطرة عليها (سيطرةً كاملةً)، فإنه، على العكس من الهوية المجروحة، لا ينكر أنه مسؤول عن أوضاعه وأفعاله ولا ينكر فاعليته الذاتية بسبب أو بحجة التأثيرات الخارجية أو الظروف الموضوعية، بل يؤكد، بالقول والفعل، ونظريًّا وعمليًّا، أنه ذاتٌ قادرةٌ على أن تضع لنفسها أهدافًا تعبِّر عنها، وتتطلع إليها، وتتحمل المسؤولية عن أوضاعها وأفعالها ونتائج تلك الأفعال.

فحياة ذات الكوجيتو المجروح مصيرٌ تساهم الذات في صنعه، وليست مجرد قدرٍ تفرضه الأوضاع الموضوعية الخارجة عن سيطرة الذات، والمضادة لها أو لذاتيتها. وينجم عن هذا الاختلاف بين الكوجيتو المجروح والهوية المجروحة، أو يرتبط به، اختلافٌ آخر قد لا يقل أهميةً عنه، في هذا السياق، ويتعلق بالعلاقة مع الآخر. ففي حين أن الكوجيتو المجروح يرى الآخر بوصفه جزءًا من الذات، وجسرًا ضروريًّا للعبور إليها، وإقامة علاقةٍ (إيجابيةٍ وصحيةٍ) معها، تختزل الهوية المجروحة الآخر في كونه عدوًّا، بل العدو، لكونه ظالمًا، بل الظالم؛ وتحمِّل ذلك الآخر كامل المسؤولية عن الجرح المصابة به ذات تلك الهوية المكلومة.

أشرت في نهاية التدوينة السابقة إلى أنني سأعطي مثالًا عمليًّا ونموذجيًّا (أو أكثر) على حالة إنكار المسؤولية لدى بعض "ممثلي الهويات أو الذوات المجروحة". وسأفي بوعدي في هذه التدوينة بإعطاء مثالين: أحدهما من المجال (الثقافي) النسوي، والآخر من المجال (الثقافي) السياسي.

منذ فترةٍ قريبةٍ، سمعت مدير أحد المنتديات يشير، بأسفٍ ومرارةٍ، إلى قلة العناصر النسائية في المنتدى الذي يديره؛ وسارع إلى التشديد إلى أنه لا يقصد من وراء ذلك تحميل النساء مسؤولية ضعف مشاركتهن في نشاطات المنتدى، بل إنه يقر بمسؤوليته ومسؤولية بقية القائمين على المنتدى عن الضعف المذكور. وقد أثنت مديرة منتدى آخر على رأي المدير المذكور، وأبدت اتفاقها مع إشارته وإقراره. في المقابل، أشارت المديرة المذكورة إلى ضعف مشاركة الرجال في المنتدى النسوي الذي تديره، وحمَّلت الرجال المسؤولية الكاملة عن الضعف المذكور، وحثت الرجال على المشاركة في نشاطات المنتدى المذكور أو غيره من المنتديات والنشاطات النسوية.

بعد سماعي لرأي الشخصين المذكورين، شعرت بأسى كبيرٍ ودهشةٍ أكبر، وبالكثير من الإثارة الفكرية والنفسية. بدا لي أنه من الشهامة الفكرية والنفسية إعلان مدير المنتدى عن تحمله وزملائه المسؤولية الكاملة عن ضعف مشاركة النساء في نشاطات منتداهم، على الرغم من أنه من المؤكد والواضح والمعروف، نظريًّا، من حيث المبدأ، وعمليًّا، من حيث الممارسة والتطبيق، أنهم لا يتحملون المسؤولية كاملة، ولا يستطيعون، "أصلًا"، أن يكونوا المسؤولين الوحيدين عن هذا الأمر. لكن يمكن فهم هذا الإعلان عن تحمل المسؤولية على أنه شكلٌ من اللباقة الاجتماعية وسماحة النفس الأخلاقية والاستعداد النفسي والفكري لتحمل المسؤولية، على الرغم من "كل شيءٍ".

عادةً، يميل الناس إلى التقليل من مسؤولية الشخص الذي يبالغ أو يفرط في تحميل نفسه المسؤولية. فقد جرت العادة على التفاعل بلطف مع من يبادر إلى التفاعل بلطف معنا. فإذا قال شخصٌ لنا "اشتقت إليكم"، يميل أغلبنا إلى الرد بالقول "ونحن بالأكثر". لكن ما حصل في المثال المذكور يشبه أن يقول شخص لآخر "أنا أحبك"، ليرد الشخص الآخر بالقول "وأنا أيضًا"، لا ليعني أنه يبادل الشخص الآخر المشاعر ذاتها، وإنما ليقول إنه يحب نفسه أيضًا! فلم تتردد مديرة المنتدى المذكورة في تبرئة نفسها وبنات جنسها من المسؤولية المذكورة، وتحميل تلك المسؤولية كاملةً للآخر المتمثل في الذكورة أو الرجل/ الذكر. وقد لا يكون ذلك غريبًا (جدًّا)، إذا تذكرنا أن بعض الصيغ النسوية تخلط بين الرجال والذكور، بين النسائي والنسوي، بين الجنسي العضوي والجندري الاجتماعي، بحيث إنها لا تعير اهتمامًا إلى فرادة الأفراد المنتمين إلى النوع (الاجتماعي) ذاته.

وتبدو هذه الاتجاهات النسوية ممثلةً نموذجيةً للهوية المجروحة المتمايزة قطبيًّا أو مثنويًّا عن الكوجيتو المجروح. فوفقًا لتلك الاتجاهات، النساء مظلومات وضحايا ويتمتعن بسماتٍ معينةٍ وينبغي أن يتمتعن بحقوقٍ وامتيازاتٍ معينةٍ، لمجرد كونهن نساء. والأهم من ذلك كله، في ذلك السياق، أن الآخر مدان، حتى لو ثبتت براءته. فهو مدانٌ لأنه آخر، ولأنه آخر فهو الظالم الجارح. وكل امرأة هي ضحية لهذا الآخر، وليست مسؤولةً مطلقًا عن الظلم الواقع عليها. فهي نتاج بنيةٍ ومجتمعٍ ذكوريٍّ وأوضاعٍ موضوعيةٍ لا فاعلية لذاتها مطلقًا فيها.

على الرغم من لا معقولية المنطق الذي تتبناه الهويات المجروحة، فإن النظر إليها على أنها ذوات معذورة لا حول ولا قوة لها إلا على القيام برد فعل منفعلٍ بفعلٍ أصليٍّ هو المسؤول الأول والأوحد عن "كل شيءٍ (سلبيٍّ)"، أمرٌ شائعٌ في سياقاتٍ كثيرةٍ ومنها السياق النسوي العربي. ولا يدرك الشخص المتبني لهذا الاتجاه، في معظم الأحيان، أنه بالنفي الكامل لمسؤوليته، إنما ينفي فاعلية ذاته أو وجود ذاته (الفاعلة). ففي مثل ذلك المنطق، تكون الذات المذكورة مجرد موضوعٍ تمارس ذات الآخر الظالم فاعليتها عليه. وفي ظل هذا المنطق الأيديولوجي المانوي أو المثنوي، تتحدد ذات كل طرفٍ من خلال تراتبٍ معياريٍّ يقصي فيها كل طرفٍ الطرف الآخر.

فالمرأة تتحدد بوصفها ليست رجلًا، والرجل يتحدد بوصفه ليس امرأةً، والمرأة أعلى مكانةً، لمجرد أنها ليست رجلًا، ولأن الرجل أدنى مكانةٍ لمجرد أنه ليس امرأةً. وكل منهما كذلك، لأن المرأة ضحية ومظلومة لمجرد كونها امرأة، والرجل مذنب وظالمٌ لمجرد كونه رجلًا.

سأترك، إلى التدوينة القادمة، المثال الثاني الذي يتعلق بالذات العربية الجريحة والمهزومة. فإلى أي حدٍّ ثمة معنى من الحديث عن مثل هذه الذات أو الذوات، في الواقع العربي الراهن؟ وما الإجابة المناسبة والممكنة عن سؤال "من نحن؟"، أو سؤال "من أنتم؟"، في سياق الحديث عن تلك الذات أو الذوات؟ وإلى أي حدٍّ يمكن الحديث عن المسؤولية الذاتية، وعن الذات المسؤولة، الفردية والجمعية، في وعن الواقع العربي الراهن؟

حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".