في نقد الماركسية التقليديّة
أوَّلاً، اختصار الثورات العربيَّة بأنّها “ثورات الخبز” أو "ثورات الجياع"، والتحسَّس من لفظة "الكرامة" بنيّة ضامرة، بحجَّة عدم وجود شيء مادّي اسمه الكرامة البشرية. يعتقد بعض (وأقول بعض) الماركسيين التقليديين، بأنَّ "الشَّبع"، أي العدالة الاجتماعيّة، هو معطى كافٍ للتخلّي عن ضرورة الحريات السياسيَّة. وقلة الحساسيّة تجاه مسألة الحريات السياسيّة الليبرالية، هي أمرٌ قادم من العداء لأميركا أو لليبرالية الاقتصاديّة نفسها كمفهوم، أو الإخلاص السلفي الصارم للنص الماركسي الكلاسيكي. الخلط بين الليبرالية الاقتصادية والنيوليبرالية الاقتصادية من جهة، وبينهما وبين الليبرالية السياسية من جهة أخرى، هو أمر شائع لدى هذه الشريحة.
ثانياً، تحميل الأنماط الاقتصاديّة للدول التي اندلعت فيها ثورات الربيع العربي، وهي دول كانت تعتمد الاقتصاد النيوليبرالي، خصوصاً في سورية وتونس، مسؤولية الأوضاع الكارثيّة فيها. وهذا أمرٌ فيه مغالطة باعتقادي. المشكلة مع نظام آل الأسد، ليس لأنّه نظام نيوليبرالي يعتمد على اقتصاد السوق المفتوح الحرّ، والاختلاف معه ليس اختلافاً اقتصادياً فقط، على ضرورة التأكيد على الأهمية الشديدة للمدخل الاقتصادي. ولكن نظام الأسد هو نظام شمولي مافيوزي، لا يهمُّه فقط نهب الثروة، وتجويع الناس وإفقارهم مادياً، بل الإذلال والقمع وإهانة كرامتهم معنوياً. ولو كان نظام الأسد يوزّع الثروة بعدالة أيضًا، لاندلعت ثورة شعبيّة ضده باعتقادي.
ثالثاً، ثمّة فرق بين الليبرالية الاقتصاديّة والنيوليبرالية الاقتصاديّة. ولا تتحمل قيم الليبرالية السياسية كالديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، مسؤوليّة السياسات الكارثيّة للنيوليبرالية الاقتصادية. كما أنَّ الليبرالية الاقتصادية لا تمشي وتنجح مع استبداد سياسي. حرية حركة رأس المال، تفترض أيضاً، حرية في قول الرأي والتنقل والمشاركة السياسية، وإلا فستتهمّش قطاعات واسعة من الناس، وستتطابق النخبة السياسية مع النخبة الاقتصاديّة، لأنها وحدة تمتلك الحرية، وهذا حصل فعلاً في سورية.
رابعاً، ألمانيا ودول شمال أوروبا، فيها أعمق درجة من الحريات السياسية والفردية والمدنية (الليبرالية السياسية) وأعمق توزيع عادل للثروة، ودعم الدولة للقطاع العام (العدالة الاجتماعية)، فالمفهومان لا يتعارضان. واليسار الأكثر تحررية في الغرب هو "اليسار الليبرالي"، وهو يسار لا يقول إنّ التعليم لدى نظام الأسد مجاني، أو إنه يحارب الاستعمار والرجعية، أو إنّ الجيش السوري مؤسسة مستقلّة، بل يقول إنه يقتل الناس ويعذبهم، ويستخدم السلاح الكيماوي.
خامساً، ليست المعاني والأيديولوجيا والتصوّرات (كالطائفيّة والتدين) تمثيلاً دقيقاً ومباشراً للأوضاع الاقتصادية المادية الباردة كما يقول الكثير من أنصار الماركسيّة التقليدية. العلاقة بين المعنى والمادة ليست علاقة خطيَّة مباشرة، بل هي علاقة تأثُّر وتأثير، علاقة تشارك وتفاعل. فإذا كان "التدين احتجاجاً على تعاسة الواقع" كما يقول أنجلز. فما تفسير تدين شريحة هائلة من الطبقة الوسطى المحافظة في العالم العربي وتركيا وهي طبقة مرتاحة اقتصاديا، وفعلاً ليس هنالك شيء "تحتج عليه". والمثال الآخر الداحض لهذه النظرية، هو أنَّ الخطاب اليميني الشعبوي (معنى)، استطاع أنْ يحشد من ورائه ناساً من مختلف الطبقات الاجتماعيّة وليس الفقراء الفقط، كما كتب أحد الصحافيين الألمان في صحيفة الـ"دي زايت" أنّ الجمهور اليميني الشعبوي المعاصر هو جمهور "عابر للطبقات"، ويتأثر بقوة معنى الخطاب، في هذه الحالة، ثمّة مادة تتأثّر بالمعنى.
سادساً، الموقف الماركسي التقليدي من الإسلام والإسلاميين هو موقف تبسيطي وشديد الاختصار. تعالٍ على العالم الإسلامي الداخلي (وهو عالم نقاشه الداخلي بالمناسبة أكثر حيوية ونشاطاً من العالم الماركسي التقليدي الداخلي)، وعدم التفريق بين الإسلام الاجتماعي والإسلام السياسي، الإسلام كثقافة والإسلام كسلطة، الإسلام كهوية ثقافية أو كنمط حياة محافظ، والإسلام كمشروع سياسي سلطوي توسّعي.
سابعاً، الثورة السورية بالضبط ليست ثورة جياع بالدرجة الأولى. كاتب هذه السطور مثال، وكثيرون من أمثاله، إذْ لم يكن جائعاً، ولم يكن لحظة الثورة يعرف نمط الاقتصاد السوري حتّى.