في وداع الريّس رياض (1 من 2)
قبل أن ألتقي الأستاذ رياض نجيب الريس بعشر سنوات، تعرفت عليه بفضل بائع كتب قديمة كان يفرش بضاعته على سور حديقة الأورمان المجاورة لجامعة القاهرة، لم يكن البائع عارفاً بخفايا بضاعته مثل باعة سور الأزبكية، ولذلك أشار إلى كومة مجلات قديمة حصل عليها من بائع روبابيكيا، وقال وهو يرغب في الخلاص منها إنني لو اشتريت كمية كبيرة سيبيعني العدد بربع جنيه.
خلال التقليب في كومة المجلات، توقفت باهتمام عند أعداد مجلة تحمل اسم (الناقد)، ليس فقط لأن أغلفتها كانت متميزة عن غيرها بمراحل، ولكن لأن أكثر من عدد كان يحمل اسم نزار قباني على الغلاف، وقد كنت وقتها من عشاق شعره ونثره، لا زلت أذكر عنوان القصيدة التي لفتت انتباهي على أحد الأغلفة: "أبو جهل يظهر في فليت ستريت"، وحين رأى البائع اهتمامي بأعداد المجلة، قرر على الفور رفع السعر، لكنني ذكرته بعاقبة إخلاف الوعد وبركة اللقمة الحلال، وأخذت كل ما لديه من أعداد (الناقد) التي أدخلتني إلى عالم ساحر ومهم كان غائباً أو مغيّباً في الصحافة المصرية، فأحببت بفضلها كتابة أنسي الحاج وزكريا تامر والصادق النيهوم وغالي شكري ورياض نجيب الريس وعبد السلام العجيلي وفاضل العزاوي وكمال أبو ديب ومحمد برادة وعزيز الحاج ويحيى جابر، وأعدت اكتشاف محمد الماغوط الذي كنت أعرف مسرحياته وأفلامه، وعرفت نخبة من الشعراء والقصاصين العرب الذين لم أكن أسمع عنهم من قبل، في تلك الأيام التي كان ينشر فيها اسم أي كاتب من جيل الستينيات مسبوقاً بتعريف (الكاتب الشاب).
تضاعف تقديري لقيمة الكنز الذي حصلت عليه حين زرت بعدها بشهر جناح دار رياض الريس في معرض القاهرة الدولي للكتاب بعدها بشهر، وعرفت الأسعار الفلكية التي تباع بها أعداد مجلة (الناقد) والكتب الصادرة عن الدار، والتي كنت أحلم باقتناء بعضها بفضل ما قرأته عنها ومنها في أعداد (الناقد)، لأكتشف صعوبة ذلك الحلم الذي تطلب تحقيق بعضه تحويش سنة كاملة، ولا زلت أذكر أن أول كتاب اشتريته من جناح رياض الريس في المعرض التالي، كان كتاب (سأخون وطني: هذيان في الرعب والحرية) لمحمد الماغوط، وكان يستحق ثمنه وزيادة، بعكس رواية (الأرجوحة) للماغوط والتي صدرت ضمن السلسلة الروائية للدار والتي كانت تصدر في قطع كتاب الجيب وكان أجمل ما اشتريته منها رواية (البلدة الأُخرى) لإبراهيم عبد المجيد والتي قفلت لي بالضبة والمفتاح فكرة السفر للعمل في الخليج بعد الدراسة.
أذكر أيضاً إعجابي برواية (بيضة النعامة) لرؤوف مسعد التي أصدرتها الدار، وتأثيرها الصاعق علي وعلى أبناء دفعتي الذين استعاروها مني، وكيف انبهرنا جميعاً بجرأتها، وكنت وقت صدورها قد بدأت الجمع بين الدراسة والعمل في مكاتب الصحف العربية، فأصبحت من الزبائن المعتمدين في جناح رياض الريس، وصرت خبيراً في إصداراتها التي منعت إعارتها لأصدقائي، بعد أن طرطش أحدهم شيئاً مريباً على نسخة (بيضة النعامة)، لكنني برغم ذلك لم أحقق حلم اقتناء الأعداد الكاملة من مجلة (الناقد) لأن ثمنها الفلكي كان يكفي لشراء عشرات الكتب، وكان صدور مجلة (الناقد) قد توقف عام 1995 لأسباب اقتصادية، خصوصاً بعد تكرر منعها من الدخول إلى الدول العربية القليلة التي كانت تسمح بتوزيعها، وأحياناً كانت تقوم بنزع بعض صفحاتها قبل أن تسمح بتداولها.
في أواخر عام 1999 وبعد فترة بطالة قصيرة، فُرِجت حين اتصل بي الشاعر اللبناني عماد العبد الله، وقال إنه حصل على رقمي من بعض أساتذتي الذين رشحوني لكي أتعاون معه للعمل كمراسل من القاهرة لمجلة ثقافية ستصدر قريباً في بيروت، وحين عرفت أن تلك المجلة ستصدر عن دار رياض الريس، اختلف شكل تعاملي معه ومع المكالمة، وقلت له إنني مستعد للقائه في أي وقت، "إنشالله بعد ساعة"، برغم أن تلك اللهفة خطأ لا يجب ارتكابه قبل الاتفاق على شغل، وأشهد له أنه لم يستغل تلك اللهفة أسوأ استغلال، مع أنني صدعته في الحديث عن انبهاري بمجلة (الناقد) التي كنت أظنها ستعود الصدور، قبل أن أكتشف حين التقيته أن المجلة الجديدة ستحمل عنوان (النقاد)، وستصدر لأسباب اقتصادية في ورق مختلف عن الورق المصقول الذي كانت تصدر فيه (الناقد)، وحين رأيت العدد التجريبي، لم أكن أعرف أن المجلة تستلهم فكرة مجلة (The Week) التي تصدر منها نسختان في أمريكا وبريطانيا، حيث تقدم للقارئ مختارات من كل ما ينشر في الصحافة العربية والعالمية عن أهم أحداث الأسبوع وأبرز قضاياه، وإن كانت (النقاد) قد تميزت بإفرادها مساحات أكبر للمقالات المكتوبة لها خصيصاً، والتي كانت مختصرة ومركزة وميالة إلى السخرية بعكس مقالات (الناقد)، بالإضافة إلى اعتمادها أكثر على الرسوم الكاريكاتيرية التي تميز بها الفنان السوري حسن إدلبي.
تضاعف تقديري لقيمة الكنز الذي حصلت عليه حين زرت بعدها بشهر جناح دار رياض الريس في معرض القاهرة الدولي للكتاب بعدها بشهر
كانت المجلة تنشر ركناً خاصاً للعروض النقدية للكتب العربية والعالمية، وكان يفترض أن أرسل في كل عدد عرضين أو ثلاثة عروض من مصر، يساهم بها كتاب من أجيال مختلفة، ولم تكن مهمة إقناع أي كاتب بالمشاركة في (النقاد) صعبة، مع أنها لم تكن تباع في مصر بانتظام، لأن اسم (رياض الريس) كان يكفي لإقناع الجميع بالمشاركة. كانت المهمة الأصعب هي تسليم الكتاب مستحقاتهم المادية، التي كنت أذهب لاستلامها من الكاتبة هالة العوري في مصر الجديدة، ثم أقوم بتوزيعها على الكتاب بنفسي، وهي مهمة كانت تطيب لي مع بعض الأسماء وتثقل على قلبي وأعصابي في حالة بعضهم الآخر، خصوصاً أنني كنت أدفع تكلفة المواصلات الرزيلة، لكنني كنت أتحمل ذلك محبة في فكرة المساهمة في مجلة ممتعة كنت أحصل على كل نسخها مجاناً، وأفرح بما نشرته فيها من مقالات، لا زلت أذكر منها مقالين كتبتهما عن رواية (عصافير النيل) للأستاذ إبراهيم أصلان ورواية (ثنائية الكُشَر) للأستاذ حجاج أدول، وأذكر أنني كتبت مقالاً بعد رحيل زعيم حزب الوفد فؤاد سراج الدين اخترت له عنوان (رحيل آخر قدماء المصريين)، لكنني اضطررت للاعتذار عن العمل في المجلة بعد حوالي عام، حين جاءني عرض لا يقاوم للعمل في مكتب قناة MBC في القاهرة.
حين زرت بيروت لأول مرة في عام 2001 للإشراف على تسجيل أولى حلقات برنامج (على مسئوليتي) الذي كان يقدمه الفنان دريد لحام وكنت مشرفاً على فريق كتابته، اتصلت بالصديق عماد العبد الله لأسلم عليه، وزرته في مكتب دار رياض الريس الكائن في (بناية الأونيسكو) المواجهة لحديقة الصنائع، وكنت أتوقع أنني سأزور مقراً ضخماً يليق باسم الدار وتاريخها وفريق العمل الذي يقوم بعمل المجلة كل أسبوع، لكنني اكتشفت أن المجلة تصدر من شقة صغيرة تقع في نفس الدور الذي يوجد به مقر الدار، وقال لي عماد إن الأستاذ رياض يحب أن يتعرف علي، وتصورت أنها ستكون مقابلة روتينية لن تستغرق دقائق، لكنني فوجئت باستقبال حار وعذب أثنى فيه على ما كنت أقوم به من عمل، لامساً المجهود الذي بذلته لكي تكون الأسماء المتعاونة مع المجلة متنوعة ومتميزة، وقبل أن آخذ فرصتي في الثناء على المجلة وآخر إصدارات الدار، قال إنه يتمنى أن أركز في حديثي على ما أراه من سلبيات وعيوب وما أشعر أنه ينقص المجلة والدار، وأخذ يستمع إلي باهتمام وهو يسجل بعض الملاحظات في ورقة أمامه، لتطول الجلسة أكثر مما كنت أتصور، وأخرج منها وقد زاد إعجابي به، وتضاعف فخري بتجربة التعاون القصيرة معه.
بعدها بيوم اتصل بي عماد العبد الله وقال إن الأستاذ رياض يدعوني على الغداء مع عدد من الأصدقاء كنت قد تعرفت من بينهم على يحيى جابر وحسن إدلبي، وكان يجب أن أعتذر لعماد أو أطلب تأجيل الموعد، لكي أذهب إلى تصوير الحلقة الثالثة من البرنامج، لكنني لم أكن قد سعدت بتجربة تصوير أول حلقتين، وشعرت أن كل ما أقوله أنا وغيري من ملاحظات لا يستمع إليه دريد لحام ومساعدوه، فاخترت الذهاب إلى الغداء مع الأستاذ رياض "واللي يحصل يحصل"، ومع أنني أحلت إلى التحقيق بسبب ذلك، إلا أنني لم أندم على قراري، ليس فقط لأن تلك كانت واحدة من أجمل المرات التي أكلت فيها سلطات ومزّات شامية في حياتي، ولكن بسبب جمال صحبة رياض نجيب الريس بحكاياته الممتعة وخفة ظله وأسلوبه الشامي المميز في "الحكي"، وقد سعدت جداً حين التقيت بالأستاذ الكبير فواز طرابلسي في نيويورك بعد ذلك بسنوات، حين شرّفنا بالظهور في برنامج (عصير الكتب) وقال إن الأستاذ رياض يتذكرني بالخير من تلك الزيارة التي كانت ولا زالت من ذكرياتي المبهجة القليلة في بيروت.
...
نكمل غداً بإذن الله.