في وداع الريّس رياض (2/2)
بعد أن انتهت جلسة الغداء الطويلة الجميلة، التي طافت بنا من الحديث عن العلاقات السورية اللبنانية الشائكة إلى حضور كلمة (الريس) في الغناء العربي بأغانٍ من نوعية "عندك بحرية يا ريس" و "لا يهمك يا ريس من الأمريكان يا ريس"، إلى التعامل كناشر لمرة وحيدة وغريبة مع الكاتب العقيد معمر القذافي، إلى الكِبّة النية وعلاقتها بأكل لحوم البشر، طلب مني الأستاذ رياض أن أتعاون في ترشيح بعض الأسماء المصرية الجديدة للتعاون مع الدار، وكان بذلك يرد على انتقادي لقلة عدد الكتاب المصريين الذين تتعاون معهم الدار، وإن كان قد قال إن الأمر ليس فيه موقف كما زعم البعض، بدليل أنه نشر للأساتذة جمال الغيطاني وغالي شكري وإبراهيم عبد المجيد وشفيق مقار وغيرهم، مضيفاً أن بعض الكتاب المصريين أرسلوا مخطوطات إلى الدار لنشرها، لكنهم لم يستجيبوا لبعض الاقتراحات التحريرية التي طلبت منهم، وتعاملوا معها باستعلاء أو غضب.
كان ما قاله بعفوية سبباً لأن أؤثر السلامة، فلا أتورط في ترشيح أعمال قد لا تلاقي القبول لدى الدار، فيسبب ذلك حرجاً لي مع كتابها، خصوصاً أننا ـ في ذلك الوقت وربما حتى الآن ـ لم نتعود على احترام دور المحرر والتعاون الإيجابي معه، وكانت المرة الوحيدة التي قمت فيها بتحقيق طلب الأستاذ رياض، حين أرسلت إلى الدار مخطوطة رواية (عمارة يعقوبيان) للصديق الدكتور علاء الأسواني، والتي كان يشك في إمكانية نشرها داخل مصر، وأذكر أن الدار أعجبت بالرواية، وكان يفترض أن يتم نشرها، لكنني لا أذكر الآن لماذا لم يكتمل المشروع، الذي تصدى له فيما بعد بنجاح ساحق الناشر محمد هاشم في دار (ميريت)، وكان ذلك من حسن حظ الرواية كما أظن، لأن ارتفاع سعر كتب رياض الريس كان سيحرمها من الانتشار في مصر، فضلاً عن سهولة منعها من الدخول إلى السوق المصري.
من خلال تجربة العمل القصيرة تلك، بدا لي ـ وقد أكون مخطئاً ـ أن الأستاذ رياض أو "الريِّس رياض" كما كنت أحب أن أسميه، يدير عمله في الدار والمجلة بمنطق الورشة، وليس بمنطق المؤسسة، برغم وجود هيئة استشارية تضم عدداً من الأسماء اللامعة، لكن القرار النهائي ظل ملكاً له، وظل كل ما ينشر عن الدار معبراً عن ذوقه ومزاجه، فتصبح الدار اسماً على مسمى (رياض الريس للكتب والنشر)، وهو ما يمكن أن تلمسه من حديثه عن تجاربه المتنوعة في دنيا النشر والصحافة، سواء في كتابه الجميل (آخر الخوارج) أو حديثه الطويل الممتع مع سعاد جروس الذي نشر في كتاب (صحافي المسافات الطويلة).
لم يكن يخطر على باله ما سيجري لمساحات الحرية الضئيلة التي تمكن من التحرك فيها ببراعة، محققاً إنجازاً ثقافياً لا يمكن تجاهله، لكنني أظن أنه لم يكن يفكر في ذلك كله في ساعاته الأخيرة التي صارع فيها المرض
ربما لن تجد كتابة تعبر عن مشوار رياض نجيب الريس ورحلته الطويلة أفضل من تلك المقدمة الفاتنة التي صدّر بها كتاب (صحافي المسافات الطويلة) وتحدث فيها عن الذاكرة وثقوبها، متسائلاً بشجن: "ما أهمية ما عشته أو خبرته بالنسبة إلى الآخرين، إلى أجيال ازدحمت حياتها اليوم وبات بينها وبين التاريخ القريب نوع من الزجاج العازل؟ بصراحة أكثر، هل لتجاربك بعد كل تلك السنوات أية قيمة اليوم؟ وماذا بقي من شغفك بالأمكنة ومطاردتك الدؤوبة للعالم، ورسم أحداثه الكبيرة والصغيرة بالتقارير الصحفية التي لم يبتعد عنها الأدب الذي حاولت جاهداً طرده عنها؟ ماذا بقي من صداقاتك ومشاريعك، وأنت الذي كنت تدخل في مغامرات كثيرة، كمن يلج غرفة مليئة بالوحوش، فيهز أركانها بأعواد نار متوهجة، فتبقيها في يدك كطفل يمرح، إلى أن تخبو شرارتها؟ وهل خرجت حقاً معافىً من كل تلك الخسارات، أم أنك لم تدخلها أصلاً، وعلى كل حال فإن المؤكد هو أنك لا تكاد تستعيد نشاطك، حتى تبادر إلى نحت مغامرة أخرى في الصحافة أو الثقافة، لأنك تعرف أنها ستتدحرج سريعاً قبل أن يظهر ما سيوقفها".
بالتأكيد كان الأستاذ رياض يتحدث بتلك المرارة عن توقف تجربة مجلة (الناقد) وهي في عز توهجها، وتعثر تجربة مجلة (النقاد) التي كانت أقل توهجاً ونجاحاً، وفشله في تحقيق حلم إصدار صحيفة يومية في سورية ليجدد أمجاد أبيه نجيب الريس التي حرص على تخليدها في عدد من الكتب التي لم تحقق الانتشار الذي كان يتمناه، وربما لذلك كان يتساءل عن الطريقة التي ستحكم بها الأجيال الجديدة على تجربته وخبراته، وهو ما أظن أنه كان وراء إنشائه في السنوات الأخيرة لدار نشر شقيقة بعنوان (الكوكب) تهتم بنشر أعمال الكتاب الشباب، لكن إصدارات الدار لم تحقق نفس نجاح وتوهج شقيقتها الكبرى لأسباب لست الأقدر على تحديدها، وإن كان من أبرزها أن الدور الذي لعبته دار رياض الريس في رفع سقف النشر وتحطيم الخطوط الرقابية، نافسته فيها بقوة الكثير من دور النشر خلال السنوات الماضية، لكن من يدري ربما كان لتلك إصدارات (الكوكب) تأثير خاص على من هم الآن في نفس العمر الذي كنت فيه حين وقعت في غرام (الناقد) وكتب (رياض الريس).
حين التقيت بالأستاذ رياض في بيروت، كان قد تجاوز الستين من عمره، وبرغم أن متاعبه الصحية كانت كثيرة وقتها، لأنه من الذين عاشوا حياتهم بالطول والعرض والعمق، إلا أنه كان لا يتوقف عن الحلم بمشاريع كبرى في الصحافة والكتب، تحتاج إلى طاقة شاب في العشرين، وكنت أنا وقتها الشاب في العشرين، أشعر بالإجهاد الناجم عن تجارب غير مكتملة، بعضها أوقفته السلطة وبعضها كان أتفه من أن يوقفه أحد ففشل من تلقاء نفسه، أو استمر لسنوات دون أن يكون له ربع التأثير المديد الذي حققته تجارب رياض الريس المجهضة، ولذلك تأثرت كثيراً بحماسه وطاقته الإيجابية وتواضعه ورغبته في التطوير والتطور، وقدرته على التعايش مع متناقضات الاهتمام بالسياسة والولع بالأدب والثقافة، ومعرفة الأمراء والكبراء والعيش مع الفنانين والصعاليك، وإصراره على أن يصدق أنه في الصحافة يمكن أن تكون صحفياً فقط، وإن كان قد أعلن في آخر حياته أنه أدرك أن ذلك لم يكن صحيحاً، لكنني لا أظنه كان سيغير الكثير في حياته لو كان قد أدرك ذلك مبكراً، لأنه على حد تعبيره عاش طيلة حياته "أشبه بعربة يجرها حيوانان اثنان، واحد سياسي والثاني صحفي"، وإذا كنت تستغرب لماذا ـ وهو الشاعر القديم ـ لم يشر إلى الأدب واكتفى بالإشارة إلى السياسة والصحافة، فأظن أنه فعل ذلك لأنه كان يتعامل مع الأدب والثقافة طول الوقت بمنطق صحفي، وكان يعتبر "تصحيف الأدب والثقافة" وإيصالهما إلى جمهور أوسع واحداً من همومه وأحلامه ومسئولياته، وقد كان ذلك أنجح ما قام به في حياته المديدة.
للأسف لم يتغير شيء مما كان يشكو منه "الناشر" رياض الريس لسنوات طويلة، وأبرزه تعنت الأجهزة الرسمية العربية في ملاحقة إصداراته وكتبه ومنعها من الوصول إلى قارئ مستعد لدفع ثمنها الغالي الذي يمكنه من الاستمرار، راجع مثلاً مقاله الحزين (رسالة إلى أي وزير إعلام عربي) المنشور في عام 1980 والذي جمعه في كتابه الضخم (قبل أن تبهت الألوان: رحلة في صحافة ثلث قرن)، حيث أعلن بمنتهى المرارة سقوط جيله في مستنقع الفشل القومي وفشل جيله في كسر عقدة التاريخ الدامي، وهزيمة جيله في معركة إمكانية تعدد الآراء، "هناك رأي واحد هو رأي النظام والسلطة، لا رأي ثان، ولو كان من ضمن ولصالح رأي النظام والسلطة، رأي واحد لا رأيان، هذا هو شعار المرحلة الطويلة والتي تبدو وكأنها أبدية، ولا مانع من هذا الراي الواحد لو كان يتاح للرأي الآخر مجرد مبدأ الاعتراف بوجوده"، لتسقط بسبب هذه الهزائم كل القيم "التي افترضنا وجودها تلقائياً واعتقدنا أنها من الثوابت في الحياة السياسية العامة".
حين كتب الريّس رياض هذه الكلمات، لم يكن يخطر على باله كل ما جرى ويجري لبلده الأم سورية، ولبلده الثاني لبنان، ولا للثورات العربية التي تحمس لها وناصرها بشجاعة لم يتحل بها الكثير من أصدقائه الذين فضلوا العيش في مستنقع الفشل القومي على مناصرة الحرية الوليدة، ولم يكن يخطر على باله ما سيجري لمساحات الحرية الضئيلة التي تمكن من التحرك فيها ببراعة، محققاً إنجازاً ثقافياً لا يمكن تجاهله، لكنني أظن أنه لم يكن يفكر في ذلك كله في ساعاته الأخيرة التي صارع فيها المرض، وأزعم أنا الذي جلست معه مرتين لا ثالث لهما أنه كان في تلك اللحظات العصيبة يفكر في أول مشروع سيقوم به بعد أن يقوم بالسلامة، هل سيكون صحيفة يومية أم مجلة ثقافية جديدة أم موقعاً إلكترونياً أم كل ما سبق، لأنه بالتأكيد ورث من أبيه الصحفي والمناضل والناشر نجيب الريس ذلك العناد الملهم الذي صاغه في كلماته الأشهر: "يا ظلام السجن خيِّم.. إننا نهوى الظلاما.. ليس بعد الليل إلا.. نور فجر يتسامى"، وأحسب أن اختلاف رياض عن أبيه، أنه لم يكن متأكداً من وجود الفجر، لكن ذلك لم يمنعه عن الانشغال بالعمل من أجله، بكل ما يستطيع.
ألف رحمة ونور يا ريِّس.