كتاب تاريخ يُقرأ
الكتاب كالإنسان، قد يعجبك ظاهره ويبدو جذّاباً ولكن باطنه يحمل كل الاحتمالات. ما أسهل أن تعثر على كتاب يدّعي الجمال، ولكن ما أصعب أن تقع على كتاب يحاكي الجمال.. هل لي بالحديث عن نفسي قليلاً؟
منذ سنين قليلة وأنا أتنقل بين كتب التاريخ محاولاً معرفة أبجدياته. كثيراً ما كنت أتعثّر بكتب تملأ عليّ أوقاتي مللاً وضجراً، وتصل بي الحالة في بعض الأحيان إلى النفور من القراءة كلها، ونادراً ما كنت أجد الكتاب الذي يحملني على الرغبة عن كل شيء لإتمامه، وكان في الغالب ينتهي سريعاً ككل الأوقات الجميلة. إذا حاولت عصر ذاكرتي فلن أستطيع ذكر إلا بعض الكتب من النوع الثاني، وما أسهل أن أسرد أسماء عشرات الكتب من النوع الأول.
من الكتب التي لا أنسى متعتها في ذاكرتي إلى الآن، ولا أستبعد إعادة قراءتها ثانيةً وثالثة، كتاب أمين معلوف "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، ليس المهم الحديث عن الكتاب بقدر الحديث عن طريقة كتابته، طريقة الكتابة هي السر في مفتاح الكتب التي بحثت عنها كثيراً. الكتب الممتعة دائماً ما تظهر منذ الصفحة الأولى، ككتاب معلوف هذا الذي لم يأت اليوم الثالث على بداية قراءتي له إلا وكان قد انتهى.
ستجد في بداية الكتاب الممتع ما يسميه البلاغيون "براعة الاستهلال"، فمثلاً ستقرأ في بداية كتاب معلوف مشهداً درامياً عن دخول أبي سعيد الهروي على الخليفة المستظهر بالله في قصره في بغداد، ومخاطبته إياه خطاباً وصفه المؤرخون بأنه: "أبكى العيون وحرّك القلوب" واصفاً الهيئة التي دخل بها الهروي على الخليفة وخلفه عصبة من الشبّان، والخليفة في لهوه ومرحه، ثم يتابع كيف أثّرت خطبة الهروي بالحاضرين وكيف انتابهم النشيج والنحيب، وكيف رد الهروي قائلاً: "إن أسوأ ما يلجأ إليه المرء من سلاح أن يسكب الدمع بينما تُذكي السيوف نار الحرب".
ثم يشرع الكاتب بسرد خلفية تاريخية عن الحادثة. ثم تقرأ بعد صفحة مشهداً درامياً آخر عند وصول سكان بيت المقدس وأرض فلسطين إلى دمشق هاربين من الصليبيين ومذابحهم: "واقترب الناجون من أهل القدس بدورهم من عاصمة الشام، وإذ لمحوا من بعيد مآذن المسجد الأموي الثلاث التي لاحت فوق الحرم المربّع بسطوا سجاجيد الصلاة وسجدوا شكراً للعلي القدير.. واستقبل أبو سعيد الهروي بوصفه قاضي قضاة دمشق اللاجئين بحفاوة بالغة"، وقبل أن تنتهي المقدمة التشويقية يهيئك الكاتب للشروع في بداية الحروب ولكن على لسان مؤرخ عايش الحروب وقيّد ما رأى بأم عينيه، لا نقلاً لوقائع منبتّة عن الواقع الاجتماعي والنفسي لتلك المرحلة، يقول الكاتب متحدثاً عن هذا المؤرخ الذي هو ابن القلانسي الدمشقي: "لقد كان رقيباً للأحوال منذ الساعة الأولى، فعمره في سنة 1096م عندما وصل الفرنج إلى الشرق ثلاثة وعشرون عاماً.. وكانت بداية الحكاية بالنسبة إليه في تلك الأيام المفعمة بالكرب التي سرت فيها إلى دمشق أولى الشائعات..". وتنتهي المقدمة.
لا يمكننا اليوم فهم واقعنا بمنأى عن كتابات أدبائه وأفكار فلاسفته وهموم إنسانه ونقاشات سياسييه واقتصادييه، وانتقادات اجتماعييه، فلماذا لا ينطبق هذا على التاريخ؟
كيف لإنسان قرأ مثل هذه المقدمة ألا يتملّكه الشوق لمتابعة الأحداث ومعرفة الخبر كله؟ الكاتب هنا -والمهم النموذج وليس الشخص- على دراية بأنه يتعامل مع بشر لهم مشاعرهم ومخاوفهم وحياتهم التي تعرضت للخطر، لا مع مجرد وقائع تحتوي على أرقام من ماتوا ومن شاهدوا الغزو وفي أي سنة حدث.
لنفترض الآن أن أحدهم أراد كتابة هذه الأحداث بقلم المؤرخ المعلوماتي، ما الذي سيكتبه؟ "في سنة الفلانية زار الهروي الخليفة في بغداد ووبخه، وفي السنة الفلانية جاء أهل القدس والمناطق المجاورة إلى دمشق هرباً من الصليبيين، وفي السنة الفلانية بدأت الشائعات تصل إلى دمشق عن غزو صليبي محتمل، بحسب ابن القلانسي". أهذا أم ذاك؟
إذن السر في كيفية كتابة التاريخ؟ ليس هذا فقط، انتقاء المصادر العامل الثاني. المصادر أمراً أطال المؤرخون بالحديث عنه، فهي قد تصنع تاريخاً جديداً مختلفاً عن السائد، كما ناقش ذلك إدوارد كار في كتابه: "ما هو التاريخ". على العموم، تُقسّم المصادر التاريخية إلى أولى وهي التي كُتبت في زمن الحدث ورآها الكاتب بنفسه وسجل شهادته عليها، وضمن هذا تأتي الرسائل والوثائق والكتّاب الرسميون أو الموظفون وكتب المذكرات. وثانية وهي التي تعتمد على الأولى في كتابتها وهي في الغالب الكتب التي تتحدث عن فترات طويلة. وثالثة وهي التي تعتمد على أي كتابة. كيف يستطيع شخص أن يكتب تاريخاً يرويه له من لم يعش ذلك التاريخ؟ هذا ما يفعله معظم من يكتب التواريخ العامة في زماننا، والذي تراه يكتب قليلاً عن الدولة الأموية، ثم بعد سنة عن تاريخ ليبيا الحديث، ثم بعد سنة عن تاريخ الصين الشعبية!
ولتقريب الصورة أضرب مثالاً آخر، وأضطر للحديث عن نفسي مرة أخرى. منذ مدة قريبة وأنا أحاول التعرف على تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وقرأت عدة كتب في هذا الأمر. كان أول كتاب قرأته لا يرقى إلى درجة الكتب المدرسية، لأن الأخيرة فيها بعض ما يخفف ثقلها كالأسئلة والصور والخرائط، أما كتاب صاحبنا هذا –ولن أسميه- فلم يكن يحتوي إلا على معلومات ومعلومات، جاءت مبتورة من مصدرها وسياقها، مجمّعة كما يجمع المحرر الصحفي الخبر الطويل ثم يختصره ببضعه أسطر، لا أدري هل يظن الكاتب أن موسوعة ويكيبيديا من ستقرأ له؟ أم بشراً يحتاج للقليل من المشاعر؟ فمثلاً تراه يسرد عليك قصة احتلال مصر كالتالي: "كانت إنكلترا تهدف إلى السيطرة على المدخل الشمالي الشرقي للبحر الأحمر وتدخل فيه إلى داخل الجزيرة العربية ولذلك سعت إلى إجلاء القوة العثمانية من العقبة وطابا والتي كان على رأسها الأميرالاي رشدي بك فقدمت إنكلترا إنذاراً للسلطان عبد الحميد بأن القوات البريطانية سوف تحتل العقبة وطابا خلال عشرة أيام إذا لم يتم جلاء القوات التركية". بينما تجد عند كاتب آخر أحسن استخدام المصادر ونقل لك الحدث بلسان حال من عاشه، متحدثاً عن الثورة السورية بوجه الاحتلال الفرنسي: "نقل القاوقجي ورجاله ثورتهم إلى بلدات ومدن أخرى في باقي أنحاء سوريا غير عابئين بإخفاقهم في حماة".
يقول القاوقجي في مذكراته: "فتحت أمامنا أبواب ميادين سوريا للثورة، وبهذه الترتيبات والأعمال انخذل ذكاء ودهاء الفرنسيين أمام ذكاء العرب ودهائهم". وفي غضون أيام انتشرت الثورة إلى القرى المحيطة بدمشق، وحاول الفرنسيون قمع الحركة باستعراض للعنف مفرط. دُمرت قرى بأكملها بالقصف المدفعي أو الجوي، وأُعدم ما يقرب من مائة قروي في المناطق الريفية المتاخمة للعاصمة، وأُخذت جثثهم إلى دمشق لتكون عبرة مروعة تردع غيرهم من مؤازرة الثوار".
ربما الفارق بين النصين أن أحدهما يريد حشو الكتاب بالمعلومات للحديث عن أكبر بقعة جغرافية وأطول فترة زمنية ممكنة، والثاني لا يلتزم بهذا الأمر، ولكن هل هذا الأمر يبرر تشويه الكتابة التاريخية بهذا الشكل وجعلها تقريراً إخبارياً؟ وكثرة المعلومات هذه ستجعل القارئ يترك الكتاب كما بدأ به أول مرة، ألا ترى إلى الذين يحفظون المعلقات السبع في يومين ثم تراهم نسوها بعد أسبوع؟ لا يختلف الأمر كثيراً هاهنا.
أخيراً، لم يعد من السائغ بتر التاريخ عن المجالات الأخرى كالأدب والاجتماع والنفس والفلسفة، إنها لنظرة سطحية تلك التي تقدم الرواية التاريخية كحدث سياسي حدث وانتهى، ما لم تقرأ ما كان يكتبه أدباء ذلك العصر، ومن هو الإنسان الذي عاش ذلك الحدث، وكيف بدت حياته، وما طبيعة الأفكار التي كانت تحكمه.
لا يمكننا اليوم فهم واقعنا بمنأى عن كتابات أدبائه وأفكار فلاسفته وهموم إنسانه ونقاشات سياسييه واقتصادييه، وانتقادات اجتماعييه، فلماذا لا ينطبق هذا على التاريخ؟