لماذا نكتب؟
في إحدى محاورات فايدروس مع سقراط، يقول سقراط بعد سرده قصة مختلقة جرت في الحضارة الفرعونية عن مجيء مخترع الكتابة تحوت باختراعه للملك تاموز، وإثبات الملك ضرر هذا الاختراع على قوة الذاكرة وفهم الحكمة، يقول سقراط: "لننته من ذلك إلى أن كل من يظن أنه قد ترك بالكتابة فناً، أو من يظن أنه قد تلقاه معتقداً أن الكتابة تنطوي على تعليم مؤكد، فلا شك أن مثل هذا الشخص هو رجل على قدر كبير من السذاجة" [محاورة فايدروس لأفلاطون، دار غريب]. لقد ذهب سقراط ولم يترك خلفه شيئاً مكتوباً، فوقع في شر أفكاره، وأصبح تلامذته مصدر فلسفته يصورونها كيفما شاءوا. وهذا ما فعله تلميذه أفلاطون في كتابه (الجمهورية) عندما عرض أفكاره، ولكن على لسان أستاذه، فاختلطت الأمور، وهو المصدر الأول لمعرفتنا بسقراط.
لماذا نكتب؟ سؤال قد يتوارد إلى ذهن كل إنسان سمع شيئاً عن الكتابة، أو طلب أحد منه أن يكتب شيئاً، أو فكر بالكتابة ولم يشرع بها بعد.
نحن في الغالب نكتب لحاجة في أنفسنا، الكتابة تُشعر الإنسان بأنه يحقق شيئاً من وظيفته الوجودية، فهو عندما يكتب يُقدّم نفسه على ورق للآخرين، وهذا جزء من طبيعة الإنسان التفاعلية التي تريد أن تستقبل وترسل أو أن تسمع وتُسمع، لذلك ترى الواحد منا عندما يناقش شخصاً ما لا يسعه الإنصات دائماً، فلا بدّ له من المداخلة وإبداء الرأي في جزئية ما أو التعليق على فكرة ما. وكذلك حالنا عندما نقرأ، إذ إننا ننصت للكثير من الكتّاب وهم يعرضون لنا الكثير من بنات عقولهم ويزينونها ويقدمونها لنا حقيقة مسلّمة، ولكننا لا نستطيع إبداء الرأي حول أفكارهم مباشرة، وإنما نلجأ إلى الكتابة لتفريغ ما أخذناه عليهم. وعلى سبيل المثال، يمكنك أن تعثر على نماذج كثيرة لهذا النوع من الكتابة في التراث الإسلامي، فالكتب التراثية التي كتبت لهذا الغرض كثيرة، وإذا ما بحثت عن كتاب يبتدأ بـ"الرد على.." أو ما شابه من جمل، فستجد مئات العناوين، مثل: (الرد على الجهمية والزنادقة) و(الرد على المنطقيين)، والدوافع مبررة ولا تحتاج لكثير انتقاد.
والكتابة هي نتاج وثمرة أفكار الإنسان، فالشجر عندما يصبح قادراً على العطاء فإنه يقدّم إليك أفضل ثماره جاهزة لتلتقطها وتهضمها، وكذلك الإنسان عندما يصل إلى نضجه المعرفي فإنه سيشرع في تقديم أفكاره للغير، إما ليريهم أنه إنسان عظيم ولديه الشيء الكثير ليقوله، أو أنه يريد إصلاح فكرة قد ضلت عن سبيلها الصحيح حسب ما يرى، أو أنه يريد تكسّباً.
أصحاب السير الذاتية هم المثال الأبرز لمن يريد أن يريك أنه إنسان عظيم، ومن المنتشر في الأوساط الثقافية عبارة "السير الذاتية أكذب المصادر التاريخية"، وما ذاك إلا لأن صاحب السيرة يكتب سيرته بكثير من المركزية، والإنسان بعدُ لا يرى ما في نفسه من عيوب، ويحب امتداحها، ويرى أهمية مضاعفة للأشياء التي يقوم بها عن الآخرين. أذكر أنني عندما كنت أقرأ كتاب الأديب أنيس منصور (في صالون العقاد كانت لنا أيام) الذي هو أشبه ما يكون بالسيرة الذاتية والغيرية، كنت أمر على مواقف ونقاشات كانت تحدث في الصالون لا أستطيع تصديق أنها خرجت عفواً وارتجالاً دون إعداد مسبق أو تفكير طويل، على أن أغرب ما قرأت فيه إجراء الكاتب في أحد النقاشات حديثاً فلسفياً، ربما يعجز عنه ابن سينا أو ابن رشد، على لسان طفلة في سن السابعة تناقش العقاد، جاءت في رحلة مدرسية لزيارة بيت الأديب الكبير. وقعت عيني فيما بعد على نقد لاذع لأحدهم لهذا الكتاب، كان عنوان ما كتبه (في صالون العقاد كانت لنا أكاذيب)، ورغم أن الناقد جرّح في نقده الظاهري بشكل فجّ، إلا أنني لا أظنه جانب الصواب كثيراً في مضمونه. وبطبيعة الحال، ليس الهدف الحط من قيمة كتاب بعينه، وإنما ضرب المثل، ولا بد لأحدهم في هذه الحالة أن يشغل موضع رمي السهام.
أما المصلحين فهم كثر، وكتب الفكر والفلسفة والدين والاجتماع معظمها تدخل تحت بند الإصلاح، وفي القرنين الماضيين، كانت كلمة "المصلح" تُطلق على الداعية إلى القومية كما تُطلق على الداعية إلى الإسلام، فأنطون سعادة كان مصلحاً، كما كان معاصره محمد رشيد رضا. وأما المتكسّبون فهم أكثر، وخلافاً لما يقوله الجاحظ من أن "أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره وكان معناه في ظاهر لفظه، حتى يخيل لك أن الله عز وجل ألبسه من الجلالة وغشّاه من نور الحكمة، على حسب نية صاحبه وتقوى قائله"، خلافاً لهذا، قد حفظ لنا التاريخ الكثير ممن كتب لمجرد التكسّب، فطار ذكره في الآفاق وما زالت مكانته محفوظة بين أصحاب القلم إلى يوم الناس هذا، ولعلّ أبا حيان التوحيدي أشهرهم. كان التوحيدي الذي عاش في القرن الرابع الهجري والعاشر الميلادي يُلّقب بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، وبالرغم من أنه كان موسوعياً مثقفاً على مستوى عالٍ من الاطلاع والبلاغة، إلا أن نيته في الكتابة لم تكن كما أراد الجاحظ، وها هو أبو حيان يخبرنا بنفسه عن سبب تأليفه كتبه قائلاً: " إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمد الجاه عندهم، فحُرمت ذلك كله"، وذلك عندما عمد إليها لحرقها، لأنه لم يجد من يستحق أن يقرأها من بعده. ونحن إذ نقول هذا، يمنعنا الإنصاف أن نقسو عليه أكثر في الحكم، فهو يردف شارحاً سبب ذلك: "ولقد اضطررِت بينهم، بعد العشرة والمعرفة، في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم" [الإمتاع والمؤانسة، دار الهنداوي]، ما يبرر لأبي حيان أنه كان من أبدع من كتب، ولكن ما الذي يبرر لروائيي زماننا؟
المهم أنك في كل الحالات ومهما تكن الدوافع، تقبض من الكاتب على خلاصة ما وصل إليه فكره، فهو لن يعذر إن قدم من رديء ما يملك وترك الأحسن، فالعادة خلاف ذلك، والقارئ سيحاكمه على ما يكتب على أنه أفضل ما لديه، وقد يكون – وما أكثره – المكتوب أفضل من الكاتب.
وبعدُ، فالكتابة هروب من الواقع ورسم عالم جميل كما نحلم، ألا ترى إلى الرسّام كيف يهرب من محيطه ويبحث في الفضاء الطلق أو في غابة حسنت روحاً ومظهراً عن شيء يُرسم ويشرع في رسمه، وإن لم يجده تخيّله وأفرغ المخيلة على لوحته؟ فكذلك الكاتب حينما يكتب يهرب من عالم مليء بما لا يحب وبما يخالف المثالية، إلى عالم سيرسمه هو ويضع له قواعده الصارمة ومثاليّاته، أو أنه سيَنشد تغيير شيء قد انجرف في ما لا يجب أن يكون فيه أو عليه، وهو في الحالتين يهرب من واقع مشوّه إلى خيال صافٍ.
يجتمع شخصان، يتناقشان حول أفكار ابن خلدون أو نيتشه أو أي مفكر آخر، ينظران لهما بعين الإكبار والإعجاب وإن خالفاهما، ولا يستطيعان إلا أن يحذوا حذوهما سواء في إطلاق الفكر أو في محاولة الإصلاح. كتب التاريخ بخيلة جداً ولا تُعطي مكاناً في صفحاتها إلا لمن استأهل ذلك وصنع حدثاً تاريخياً مجلجلاً، ولكنها متسامحة بعض الشيء مع الكّتاب، وتخصص لهم مساحة أكبر من مساحة غيرهم. الخلاصة، أن الناس لا تهتم إلا بمن يقرأ فيفكر فيكتب فيطير ذكره في الآفاق، لا سبيل إلى تغيير الأفكار إلا بالكتابة، لن تستطيع رسم معالم عالم وردي تحلم به، أو تصنع لنفسك مجداً يخلّد ذكرك، إلا والكتابة نهاية الخيط الذي رسمته للوصول إلى هدفك. ولكن هل يجب أن يكون الجميع أصحاب مجد وذكر؟ بالطبع ليس ضرورياً، وما أجمل أن يحيا الإنسان خاملاً مرتاح البال لا تكدّره الهموم، إلّا أن من قرأ ليس كمن جهل، ومن كتب ليس كمن قرأ.