كيف أغفر لهذا العمر؟
لماذا نهاجر؟ لماذا نترك بيوتنا وحاراتنا وأصدقاءنا؟ لماذا نتحوَّل إلى غرباء حتى إشعار آخر؟
حقيقةً؛ وبالرغم من نقمتي الواضحة، ونظرتي التشاؤميَّة، وبالرغم من اقتناعي التام بأننا نسير نحو الأسوأ، لم أكن لأتوقَّع شخصيًّا ولا أي شخص من الغزِّيِّين أن نموت في كل لحظة بل وفي كل يوم بهذه الطريقة السرياليَّة لتتحوَّل حياتنا إلى بالوعة من المجازر. مع كل مأساة، ومع كل حادثة نتأكَّد أننا نحن الغزِّيِّين لسنا أكثر من مجرَّد أرقام في نظر عالم لا يبالي بالضعفاء، ويبطش بالمحتجِّين، ويصعب عليه الاعتراف بحقوقهم أو بسوء أفعاله. المغلوب يتأسَّف للعالم، فيما للغالب أن يصنع معايير الحق والعدالة، ويرى إلى ما تسبَّب به من ضحايا ودمار، على أنه ضريبة ضروريَّة لمحاربة الإرهاب، أو منتج ثانويّ لصناعة الحق الذي يفرضه على العالم. في أي بقعة جغرافيَّة من العالم أعيش؟
لا حياة لنا، ولا أحلام، ولا خطط مستقبليَّة ولا حقوق. للحظات أتخيَّل عزرائيل وقد طلب الغزِّيُّون منه ابتداع طرق مبتكرة للموت، لا أعتقد أن هناك سيناريو أكثر إقناعًا للطرق التي نموت بها كغزِّيِّين. كم من صفعة وكم من صرخة يحتاج العالم كلُّه، كم من مجزرة يجب أن تتكرَّر وتتكرَّر حتى تؤرِّق مضاجع كل مسؤول من قريب وبعيد.
يقول مصطفى حجازي في كتابه التخلُّف الاجتماعيّ مدخل إلى سيكولوجيَّة الإنسان المقهور عن مراحل القهر: فبعد مرحلة الرضوخ التي يشعر فيها الإنسان بالدونيَّة والنقص وبأن كل ما يحدث له مجرَّد عقاب يستحقُّه، تأتي مرحلة الاضطهاد وفيها يشعر المواطن بحالة من القلق والتوتُّر الوجوديّ، يبدأ بالرفض. لكن هذا الرفض يبقى حبيس نفسه ويظل خائفًا من إخراجه والإفصاح عنه، حتى يصل في النهاية إلى مرحلة الانفجار أي التمرُّد والمجابهة، المرحلة التي يصبح فيها غير قادر على الاحتمال فتنفجر كل مشاعر الغضب والإحساس بالدونيَّة وتتحوَّل إلى عنف موجَّه ضد القوَّة التي تسلَّطت عليه، فهو يشعر بأنها الطريقة الوحيدة لإثبات ذاته.
يعيش الفلسطينيّ حاليًّا مرحلة الاضطهاد، فتجده حتى الآن يبحث عمَّن يحمِّله وزر ما يحدث كوسيلة دفاعيَّة تحميه من الانهيار، من الطبيعيّ أن يخاف الإنسان المجهول. لكن أن تعيش في المجهول كل يوم من أيام حياتك، وبكافَّة جوانبها، وبأبسط تفاصيلها وأدنى احتياجاتك، فهو أمر قد تعدَّى حدود الخوف. لا أستطيع أن أقول اليوم إننا كغزِّيِّين خائفون، لأننا كسرنا تلك القاعدة بتخطِّينا لحدود المجهول. لأن قوانين البشر وقواعدهم لم تعد تمثِّلنا. فالأجدر بعلماء النفس أن يأتوا إلى هنا ليستحدثوا مدرسة جديدة لعلم النفس ويسمُّوها "البشريُّون الغزِّيُّون".
لو أفضى الغزِّيُّون عن مكنونات قلوبهم بالبكاء لأغرقوا العالم كلَّه
ما زلت لا أصدِّق أني رميت سنة من عمري في القمامة. هذا الألم والوجع يضرب رأسي مرارًا؛ بالوعي واللاوعي. ولا أستحضر في ذهني الآن إلا صورةً واحدة لأفسِّر لكم منبع هذا الشعور؛ الأمر يُشبه أن يكون لديك يوم واحد لتعيشه فلا يُسمح لك إلا بالجلوس لوحدك بين أربعة جدران. لكنه يومك الوحيد والأخير، إنه الشيء الذي لن يتكرَّر... إنه العمر.
كيف عسانا نشعر بالجدوى ونحن نرى أعمارنا تُسلب منَّا؟ ترى من الذي سيمنحنا محاولة أخرى في هذه الحياة؟
ثم كيف تحوَّلت أحلامي إلى مجرَّد تذكرة طيران، بالرغم من كونه واقعا مؤجَّل الحدوث وأمرا حتميّا سأفعله جرَّاء إكمال درجة الدكتوراه خارج البلاد، ولكن ما الذي حدث؟ ها أنا اليوم أعيش ضمن دوَّامة المصير المجهول كبقيَّة الغزِّيِّين ومع أحلام كثيرة أكبرها تذكرة الطيران، وضمن موجات متتالية من الاكتئاب والإحباط.
العيش هنا يشبه شعور طفل لم يتعلَّم المشي بعد، ولكن عليه الركض سريعًا لينجو. فنحن اليوم نركض بأقصى سرعتنا لنلحق بالحياة والتطوُّر والتكنولوجيا وفرص العمل داخل الوطن وخارجه ولكن دون أن يعلِّمنا أحد كيف نفعلها.
لو أفضى الغزِّيُّون عن مكنونات قلوبهم بالبكاء لأغرقوا العالم كلَّه. ما من واحدٍ في هذه البلاد كان يرغب بأن يكون عاديًّا، منذ السؤال الأوَّل في مقاعد الدراسة: ماذا تريد أن تكون؟ لم تكن إجابة أحدهم أن يكون حاله كما اليوم.
في المرَّةِ القادمة يا بلادي، في المرَّةِ القادمة التي تسألين فيها أطفالك ماذا يريدون أن يكونوا في المستقبل، خذي إجاباتهم على محمل الجد. لا تحمليهم في جوف بندقيَّة وتطلبي منهم أن يخرجوا من جوفها أحياء شغوفين ومُقبلين على الحياة.
دافع من دافع بدمائه ليبني وطنًا، وبقي أصحاب السواعد والهمَّة مقيَّدين بشبح الموت والخيبة.
بجانب كل إنسان حيّ على هذه الأرض قبر ونعوة لأحلامه، كما لو أننا في العالم الآخر الذي يتم تصويره في الأفلام حين يحكون حكاية عن الأشباح، وبوَّابة العبور ليست سوى جواز سفر لننتقل إلى عالم البشر.
ألم تكن قضيَّتنا عادلة؟ أم أنها انتهت إلى هذا الحال من البؤس والتردِّي لأنها عادلة ولأن القوى المضادَّة للعدل هي الغالبة، ولأن الظلم ملح الأرض؟