كيف تتحوّل النساء إلى أشياء؟
حرصتْ مُؤسِّساتُ الحركات النسويّة على توعيةِ الشابات والنساء على أهميّةِ التعليم والعمل والثقافة والتجارب في تحقيقِ التغيير المجتمعي وتحسين أوضاع النساء وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسيين. وناضلتْ أجيالٌ متعدّدة من أجل أن تكتسبَ الشابات والنساء وعيًا يسمحُ لهنّ بأنْ يُصبحن قادرات على ممارسةِ حقِّ الاختيار، وأن يتحوّلن إلى ذواتٍ فاعلةٍ وممتلكةٍ لمصيرها، وصوتها، ورؤيتها للحياةِ والكون. غير أنّ هذا المسار المعقّد والشاقّ، ما عاد يستهوي فئات من الشاباتِ والنساء اللواتي صرن مهووسات بثقافةِ عرضِ أجزاءٍ من الأجساد في مواقع التواصل الاجتماعي، وممارسة فنّ الإغراء والانخراط في ثقافةِ الاستهلاك والتسويق للمنتجات التجميلية وغيرها.
تُختَزل هذه الفئة من الشابات والنساء في أجزاءٍ من الجسدِ المُفتّت، وتُلبي حاجة الناظر الشغوف بالبحث عن صورِ النساء والتأمّل في مواصفاتهن والاستمتاع بطريقةِ عرضهن، فهنّ مجرّد أشياء تُوضع على ذمّة التحديق الذكوري، وتُرضي ما يطمح إليه عدد لا بأس به من الرجال، وهو أن يروا النساء منشغلات بمظهرهن ومهووسات بأن يكنّ "جميلات" من خلال عملياتِ التجميل أو "الفلاتر''، ولله درّ التكنولوجيا التي كفت الرجال شرّ الناشطات سليطات اللسان، الغاضبات، المُهاجمات للرجال والفكر الذكوري و...!
وعندما تقتدي فئةٌ من المبدعاتِ والجامعيّات بـ"المُؤثرات" و"الإنستاغراميات"، فينصرفن إلى الاهتمامِ بالمظهر قبل الجوهر، وعرضِ أجسادهن قبل إنتاجهن، وممارسة الغنج، و"يسقطن" في فخّ التنافس: من تقدّم نفسها أفضل من الأخرى... حينها، يُصبح الموضوع مثيرًا للتفكّر. وعندما تغدو ''النجومية" في الميديا الجديدة مطلبًا ملحًّا لهذه الفئة من الشابات والنساء، تُصبح محاولة الفهم ضرورية.
يجب القطع مع ثقافةِ الاستهلاك التي روّج لها أسياد الاقتصاد الرأسمالي، والتي تقوم على توظيف الجسد لخدمةِ الاستهلاك
يمكّننا براديغم التنشئة الاجتماعية من تحليل هذا التراجع: من مسارِ إثبات الذات والفاعلية إلى مسارِ التشيئة والتحوّل إلى أداةٍ تُسخّر لخدمة مركزيّة الرجال، المُهيمنين اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا. فإذا كانت أغلب "المؤثرات" و"الإنستاغراميات" و''التيكتوكيات" وغيرهن من المُستثمرات في بيع المنتجات التجميلية، وتعليم كيفية وضع المساحيق، يُمارسن عرض "المفاتن" بحثًا عن الإثراء السهل، لأنّهن لا يملكن سوى هذه المواهب، فإنّ تهافت فئة أخرى من الشابات والنساء على تقديم أنفسهن بطريقةٍ تُرضي الرجال، يعود إلى التأثّر بثقافةِ الاستهلاك التي حدّد الرجالُ مكوّناتها وجمهورها وأهدافها. وسواء تحدّثنا عن هذه الفئة أو تلك، فإنّ جميعهن قد دَخلنَ (intérioriser) القيم التي نشأن عليها، القائمة على تربيةِ الطفلة على الاعتناء بالجسد باعتباره الرصيد المُثمّن الذي يُمكّنها من دخولِ مؤسّسة الزواج، ودفعها إلى تطويعِ جسدها لما يرغب فيه الآخر، والتكيّف مع التوقّعات الجندرية، وتعويدها إتقان فنّ الإغراء باعتباره وسيلة للتفاوض أو السيطرة على الآخر.
إنّ هذه التنشئة الاجتماعية لا تُساعد الفتيات على حسنِ الاختيار وتحديد طرائق تقديم الذات: كيف أختار أن أكون متحكّمة في حياتي الخاصة وقراراتي واختياراتي ومُلتزمة بمبادئ وأخلاقيات وإتيقا؟ كيف أتصرّف وكيف أحدّد موقعي وأشتغل على ذاتي وأنتقل من غوايةِ عرضِ الذات وعرضِ الجسد إلى امتلاك ذاتي وتقديم أفكاري ورؤيتي؟ كيف أكون سيّدة نفسي، ومتحرّرة من القيودِ والمعايير الجندرية التي جعلتني تابعة وأداة في يد الآخر؟
إنّ إعادة النظر في القيم التي تقوم عليها التنشئة الاجتماعية وفكّ الارتهان بنمطِ الأنوثة التي تؤسّس لها، هي العملية الضرورية التي تسمح للنساء بأن يتحوّلن إلى ذواتٍ قانونيةٍ وذواتٍ فاعلةٍ ومواطنات، وأن يكنّ واعيات وقادرات على إثبات وجودهن. وهذا المسار ينطلق باتخاذِ قرار القطع مع ثقافةِ الاستهلاك التي روّج لها أسياد الاقتصاد الرأسمالي، والتي تقوم على توظيفِ الجسد لخدمةِ الاستهلاك وترسيخ قيمه وتحويل الإنسان إلى أداةٍ لتنميةِ ثرواتِ أصحاب الأموال.
وليس دفاع البعض عن حقّهن في أن يكنّ عارضات لمفاتنهن وخادمات لقيم التسويق أو مروّجات للجمال المُصنّع (عبر العمليات التجميلية أو "الفلاتر التكنولوجية") إلّا علامة على فشل منظومة التنشئة والتربية على بناءِ إنسانٍ متوازنٍ وقادرٍ على حسنِ اختيار قراراته، وحجّة على تحوّل هؤلاء إلى ضحايا النظام البطريركي والنظام الاقتصادي الرأسمالي المتوحّش.