لا تفرط أبدا في صورك القديمة
حتى بدون أن تتعلم التصوير الفوتوغرافي لتصبح مصوراً محترفاً، هل يمكن أن ترى صورة التقطتها معروضة في متحف من أكبر متاحف العالم مثل متحف متروبوليتان بمدينة نيويورك؟ ببساطة الإجابة نعم، وإذا كنت لا تصدق ذلك فدعني أحكي لك عن هذا المعرض الفريد من نوعه الذي ظلت الكثير من صوره حاضرة في ذهني، على عكس معارض أخرى لفنانين أشهر وأكبر، شاهدتها وخرجت منها وقد نسيت معظم ما بها.
لو لم أكن قد شاهدت ذلك المعرض، لأجبت عن السؤال مثلك: لا طبعا، فلا بد أن أكون مصورا محترفا أو مشهورا لأرى أعمالي في متحف عادي فضلا عن المتروبوليتان، ولن تكون مخطئا، فلا يزال تفكيرنا السائد هو أن ما يعرض في المتاحف دائما لا بد أن يكون استثنائيا أو خارقا أو مدهشا، مع أنني لاحظت منذ أن بدأ ترددي بانتظام خلال السنوات الأخيرة على العديد من المتاحف المهمة، أن هناك رغبة متزايدة في الاحتفاء بتفاصيل الحياة اليومية، وفي توسيع نطاق الرؤية التي يمكن أن تطلع عليها خلال زيارتك لتلك المتاحف.
سأحدثك في مرات قادمة مثلا عن معرض بديع حضرته في متحف (تيت مودرن) البريطاني الشهير عن ذاكرة الحروب الأهلية التي تبقى في الكثير من التفاصيل التي تظل موجودة لدى المواطن البسيط في خزائن بيته، وعن معرض مدهش حضرته في متحف الفن الحديث في نيويورك (موما) عن طفولة القرن العشرين وما الذي تبقى منها في الذاكرة من ألعاب وكتب وصور، وهما معرضان لا يعتمدان على أعمال فنية أيا كان اتجاهها الفني بقدر ما يعتمدان على تجميع لأشياء ومتعلقات وتذكارات لها علاقة بموضوع كل معرض، ليصبح المعرض في مجموعه عملا فنيا فريدا متكاملا ومبهرا، لكن هذا كله يظل مختلفا عن هذا المعرض الصغير المكير الذي عثرت عليه بالصدفة وأنا أتسكع في أروقة المتروبوليتان باحثا عن مكان أستريح فيه من دسامة القاعات الضخمة.
أعترف أن صور المصورين المجهولين أدهشتني أكثر ودفعتني لتأملها طويلا، أكثر حتى من صور المصورين المحترفين
يمكن أن أترجم عنوان المعرض حرفيا إلى العربية هكذا (للجميع طقوسهم)، لكنني وجدت أن ترجمته إلى العامية ستكون أقرب لروحه (الطقوس بتاعة أي حد)، فأنت ترى في المعرض صورا لا علاقة لها ببعضها سوى أنها تقوم بالإمساك بلحظات من الزمن تخص بشرا مختلفين لا تعرف عنهم أي شيء، لتجد نفسك في الغالب الأعم تسرح في كل صورة ـ ومعها ـ متخيلا لمن تعود ومتى تم التقاطها، وأين ذهب الذي التقطها والذين يظهرون فيها، الجميل أن هذه الصور لا تشترط معايير فنية معينة أو براعة في تكوينها، صحيح أن بعضها يقدم تكوينات بارعة أو يكتسب أهميته من أنه يسجل مكانا مشهورا أنت تعرفه، لكن بعضها الآخر لا يقدم شيئا مرتبطا بشخص أو مكان، أنت ترى مثلا صورة لصينية طعام أو سرير خال أو كرسي موضوع في شرفة منزل دون أن يبدو ما حوله، بعض هذه الصور يقدم بشرا في لحظات لطيفة أو محايدة أو مبهمة، ومع ذلك هناك شيء ما يشدك إلى تأمل هذه الصور لكي تلاحظ فيها تفاصيل ما، وتجد نفسك تقارنها بتفاصيل توجد في حياتك الآن، بل وتسأل نفسك هل يمكن أن تكون صورة لك أو صورة التقطتها موضوعة ذات يوم في معرض كهذا في متحف كبير أو صغير، لكي يشاهدها بشر غيرك لا يعرفون عنك شيئا، ويجدوا في نظرة عينيك أو في ما نظرت إليه عيناك شيئا يخصهم، يدفعهم للتأمل والتفكير أو الاندهاش، سواء مما قمت بتصويره، أو لأنك أصلا قمت بتصويره.
كثير من صور المعرض قدمها للمتحف بيتر جي كوهين أحد هواة جمع الأعمال الفنية والذي قضى حوالي عشرين عاما يطوف على أسواق الروبابيكيا أو "الفلي ماركت" كما يطلق عليها والكراجات التي تقوم ببيع المتعلقات القديمة، ليقوم بجمع أكثر من ثلاثين ألف صورة تخص أشخاصا لا يعرف عنهم شيئا، لتشكل هذه الصور فرصة لتأمل الحياة الأميركية، ولتكون أساسا لمعرض قرر المتروبوليتان أن يضع فيه أعمالا تدور حول فكرة طقوس الحياة اليومية، لكن من التقطها هذه المرة عدد من كبار المصورين الذين عرض المتروبوليتان أعمالهم طيلة الأربعين عاما الماضية، بالإضافة إلى فيديوهات أيضا تدور حول فكرة تفاصيل الحياة اليومية وطقوسها، والملاحظ أن تاريخ التقاط بعض هذه الصور يعود إلى تسعينات القرن الماضي، لينفي ارتباط أهمية الصورة التي تتناول الحياة اليومية بكونها تعود إلى زمن قديم اندثرت معالمه وأصبح لا يشبه عصرنا كثيرا، ولتصبح قراءة الصورة مرتبطة بها وحدها، وليس بسبب وجود قيمة تاريخية لها، أو بسبب تقديمها لعنصر جذب بصري مما نحب أن نراه في الصور الفوتوغرافية الرائجة.
أعترف بأن صور المصورين المجهولين أدهشتني أكثر ودفعتني لتأملها طويلا، أكثر حتى من صور المصورين المحترفين، وقد حاولت تصوير بعضها، لكن المعرض كان موضوعا ربما بالقصد في مكان خافت الإضاءة، برغم أن التصوير لم يكن ممنوعا، وعندما عدت إلى موقع المتروبوليتان على الإنترنت الذي يتيح عرض بعض الأعمال المقدمة، وجدت أنه قام بحذف بعض الصور التي نشرها، إذ يبدو أنها بعد نشرها اتضح أن من التقطت لهم احتجوا على ذلك، حيث يلزم القانون أي مصور سواء كان يلتقط صورا فوتوغرافية أو فيديوهات أن يأخذ إذن من يقوم بتصويرهم، وإلا أصبح من حقهم مقاضاته، حتى لو ظهرت صورهم بشكل عرضي، على عكس ما يحدث لدينا لحسن حظ مصورينا، وقد اخترت لك من بين الصور المتاحة عددا من الصور ستراه هنا، ليوضح لك فكرة المعرض، وليشجعك أيضا على ألا تفرط في أي صورة تمتلكها سواء كنت قد التقطتها أو كنت ظاهرا فيها، لأنها يمكن أن تكون ذات يوم معروضة في أكبر متاحف العالم، لتصل إلى العالمية من حيث لا تدري ولا تحتسب.