لا شيء يعوّل عليه
شتاءٌ باردٌ جدًّا، يأتي باستمرار، كطلقاتِ رشاش. لا تصعد درجة الحرارة عن تسعِ درجات، وتُراوح الصفر غالبًا، عند حدود ناقص ستة ليلًا. لكنه، رغم كلّ ذلك، هو طقسٌ غير ممل، إنّه شديد التنويع والتقلّب داخل هذه الحدود الضيّقة، ما يعني أنّنا إزاء طقس مضاد للرتابة بمعنى الكلمة. فهو لا يثبت على حال، ولا يركن، أبدًا، إلى يقين. طقسٌ، مثل الهولنديين أنفسهم، شعب غير ممل، وغير متطابق.
أيضًا، إنّ الشمس المشرقة والسماء الصافية هنا لا تعنيان الدفء أبدًا، بل على العكس من ذلك، تعني الطقس القارس جدًّا. في حين يعني المطر، وكذا الثلج، طقسًا ألطف وأدفأ. ثم لا شيء يُعوّل عليه من كلِّ ذلك تقريبًا، فالتقلّب السريع حال مزاج السماء هنا، من الغيمِ إلى الصحو، ومن المطرِ إلى الإشراق، ومن الريحِ إلى السكون، ومن السكونِ والجمود إلى الحركة والنشاط. ثمّ، ومن حيث لا تحتسب، ومن حيث تعجز عن الفهم، يأتي يومٌ مشمسٌ وصاف كالمرآة، ليعقبه يومًا غائمًا وضبابيًا، ثم يوم عاصف، يعقبه يوم هادئ ورزين ومطمئن، ثم ها هي تثلج، وبعد قليلٍ فقط، تطلّ الشمس (من دون أن تترك لك الغيوم أن تسجل في دفتر مذكراتك الصغير كيف تلاشت)، وتستمر في إشراقها يومين كاملين فوق بياضٍ عصيٍّ على الذوبان.
وفي اليوم الثالث، وكما لو أنّه السحر، يُذيبُ مطرٌ دافئ كلَّ شيءٍ في رمشةِ عين، معيدًا بداية الخلق والنشوء إلى سيرتها الأولى. وفي حين تعني درجة الحرارة تسعة، في المغرب الشتاء القارس والكئيب والاختباء في المنازل تحت البطانيات، تعني هنا البهجة والاحتفال والسعادة المطلقة، حيث يخرج الهولنديون للتنزّه رفقةَ كلابهم، أو على دراجاتهم وسياراتهم مبتسمين، يتبادلون التحيّة كما لو أنهم في عيدٍ، مستمتعين بكلِّ نسمةِ دفءٍ، مغتنمين ارتفاع الحرارة إلى ذلك الحدِّ، حيث لا تتجمّد الأصابع داخل القفازات، ولا يحمرّ الأنف، ولا تَسيل الدموع.
تقلّبات مستمرة ومضادة للرتابة، تخدعك باستيهاماتِ الدفء الكاذبة، وتساعدك على مراوغةِ كآبة الثبات واليقين والركود
يمتلئ مركز المدينة بالمارة والمتنزّهين والمتسوّقين ساعةً، وقد يفرغ بعد ساعة، وفقًا للطقسِ وتقلّباته المستمرة وتنويعاته غير المتوقّعة، وغير الجاهزة كالأحكام. ولهذا، وبسببِ هذا الطقس، أصبح لدى السكان ذات تتحسّس الأرصاد الجوية واستشعاراتها، وهم ينظرون إلى السماءِ كلّ صباحٍ قبل الخروج، متنبئين بأطوارِ طقس اليوم وتحوّلاته. إنهم شعب برمائي بامتياز، يراوح بين الماء والثلج واليابسة والبيوت والمقاهي والمطاعم ومكاتب العمل الدافئة باستمرار، والمستقرة في درجةِ حرارةٍ مناقضةٍ لرقصِ الطقس في الخارج على أنغام صرعاته الكثيرة، وتدرجاته، وتشكيلات لوحاته الجنونية المتجدّدة كلّ لحظةٍ، وكلّ آن، وكلّ رعشةٍ.
وكلّ هذا الانتقال السريع والمستمر لأحوالِ الطقس، من حالٍ إلى حال، كفراشةٍ تنتقل من غصنٍ إلى غصن، هو الفسحة الفرجوية الوحيدة التي تمنحك إحساسًا وهميًّا بتغيّر العالم من قارسٍ إلى دافئ، ومن دافئٍ إلى مثلجٍ، ومن الإضاءةِ الجليدية للأشجار والطبيعة والمباني إلى الإضاءةِ الفادحة للشمس من دون غبارٍ يشوّش الرؤية، حيت تبدو بوضوح النتوءات بين قرميد سقوف المنازل والكنائس والتماثيل، إلى إضاءة الضبابِ والعتمة، إلى انكسارِ الأشعة فوق الجليد، وكلّ هذا أكثر من يفهمه ويتحسّسه هم الرسامون، بحيث يصير الفضاء كلّه لوحةً بعد لوحة من لوحاتِ رامبرانت، أو من الفن المعاصر داخل مُجمّدة بحر الشمال هذه، والتي تحافظ على الألوان وانطباعاتها ضدّ تحلّلها وفسادها وتلاشيها.
تقلّبات مستمرة ومضادة للرتابة، تخدعك باستيهاماتِ الدفء الكاذبة، وتساعدك على مراوغةِ كآبةِ الثبات واليقين والركود، في حين أن الحقيقة هي أنّه شتاء واحد فقط، قارسٌ وطويلٌ ومتقشف، وبأقلِّ ما يمكن من دفءِ الأهل والرفاق البعيدين خلف البحر، لكن ليس خلف الذاكرة: حيث البرد برد والشمس شمس من دون مراوغة، تلك الشمس الأفريقية الواضحة التي لا تَخدع أحدًا، ولا أحد يستطيع أن يخدعها.