لماذا اختفى البطل القبطي من شاشتنا؟ (2 من 5)
قلت للأستاذ داود عبد السيد: "هذه أول مرة تظهر بطلاً قبطياً في أفلامك بشكل مباشر، ما تقييمك لظهور الأقباط في السينما المصرية؟"، فأجابني: "أنا عمري ما فكرت بطريقة إني عايز أعمل فيلم عن الأقباط أو عن المسلمين، الفن عندي ببساطة إن يكون عندك موضوع نابع من هم شخصي أو عام لديك". وأضاف قائلاً: "للأسف التصور الذي نشأ عن السيناريو داخل الوسط الفني بسبب الإشاعات والأخبار الكاذبة تصور غير صحيح، وسببه الجهل لأن الفيلم ينقد الشخصية القبطية التي تظهر في الفيلم بوصفها شخصية معقدة وتخاف من البنات يعني شخصية في مرحلة ما قبل التطرف في علاقاته النسائية والعاطفية، بينما قدم السيناريو شخصية مسلم عادي وسوي يحب البنات، وللأسف نتيجة المناخ المتشدد الشائع الآن اعتقدوا أن هناك قصد لتقديم المسلم في الفيلم بشكل سيئ بينما أنا معتقد العكس، إن شخصيته هي السوية والطبيعية، حتى إني جعلت البطل المسيحي يتخلى عن تشدده في الآخر بشكل خفيف، ومش عارف إزاي يعني اللي دمه خفيف يبقى شخصية سيئة".
وعن المشاكل التي واجهها الفيلم مع الرقابة قال الأستاذ داود عبد السيد: "فيلمنا كان له منذ فترة مشاكل مع الدرجات الدنيا من الرقابة تم تجاوزها، وهي مشاكل نابعة عن موقف متخلف من شخصيات متخلفة وصلت إلى حد التحفظ على أن يكون اسم البطل صامويل، يعنى عدم الاعتراف بوجود آخر من أصله، لكن هذا لم يكن موقفاً رسمياً بل تم تجاوزه من الدكتورة درية شرف الدين الرقيبة السابقة التي أجازت الفيلم، أما مشاكل الإنتاج فقد تم حلّها بعد نجومية هنيدي وأنا من أول لحظة صممت على اختياري لهنيدي حتى قبل نجوميته، رغم وجود إغراءات باختيار أبطال كانوا ناجحين بالفعل، وتعثر الفيلم بسبب رفضي لهم وذلك اقتناعاً مني بموهبة هنيدي، لكن دلوقتي بقى مشكلة في الإنتاج بعد رفض هنيدي وفؤاد لعمل الفيلم، ومع الأسف الناس بيرفضوا ويا ريت لأسباب حقيقية، وأعتقد إن في حصار على الفيلم من منتج معين حط في دماغه إنه يروح لأي ممثل ويقول له: إوعى تعمل فيلم هندي، والحقيقة الكلام ده بيصيب الواحد بإحباط شديد".
ما علمته بعد حديثي مع الأستاذ داود عبد السيد أنه أصبح على شفا اليأس من إنجاز "فيلم هندي" وقرر ترشيح تلميذه المخرج الشاب هاني خليفة الذي بدأ بالفعل عن ممثل شاب يقوم بدور البطولة إلى جوار علاء ولي الدين، وتم ترشيح أشرف عبد الباقي، لكن بعض المقرّبين منه يتوقعون أن يبدي نفس الاعتراضات التي أبداها هنيدي، وهو ما يصعب من مهمة خروج الفيلم إلى النور". (بالفعل لم يقم الأستاذ داود بعمل الفيلم بعد ذلك وتم عمله بعدها بسنوات بعد تغيير السيناريو بشكل كبير لدرجة أن موسيقى وأغاني الراي التي كانت مسيطرة على تفكير أحمد آدم بطل الفيلم، تم اعتمادها لتصبح بدلاً من الأفلام والأغاني الهندية في السيناريو الأصلي، وخرج الفيلم إلى النور بإخراج منير راضي وإنتاج جهاز السينما التابع للدولة الذي اختار إسناد أدوار البطولة إلى أحمد آدم وصلاح عبد الله ومنة شلبي، لكن الفيلم لم يحقق نجاحاً كبيراً كما كان يأمل صانعوه).
نموذج آخر لأزمة تناول الشخصيات القبطية في السينما المصرية، يعكسه السيناريست فايز غالي صاحب أفلام "العوامة 70" "يوم مر ويوم حلو" و"الإمبراطور" و"الطريق إلى إيلات" و"فارس المدينة" وغيرها، والذي قرر أن يقدّم تجربته الأولى في الإخراج من خلال سيناريو فيلم كتبه بعنوان "تيك أواي" يحكي قصة حب بين نادلة في مطعم وجبات جاهزة وطباخ يتردد على هذا المطعم، وكلاهما مسيحي الديانة، ليقدم من خلال تطور قصة حبهما، الكثير من التفاصيل عن الأسر المسيحية وطقوسها في المناسبات الدينية والأعياد بشكل ربما كان البعض يعرفه، لكنه لم يقدم من قبل على الشاشة.
عرض فايز غالي المشروع على النجمين محمود حميدة ويسرا فتحمسّا له جداً، لكنه حين عرض فيلمه على الرقابة في الفترة التي تولّت رئاستها الدكتورة درية شرف الدين، "أصيب الرقباء الأفاضل بحالة ذعر ورفضوا الفيلم"، كما قال لي فايز غالي، "لأنه عنصري كما قالوا، بل إنهم نظروا إلى بعض التفاصيل بطريقة غريبة، وقالوا إشمعنى المسلمة بتبان خليعة والمسيحية بتبان أخلاقية، بينما الشخصية التي رسمتها للمسلمة شخصية بنت جدعة تفكرك على طول بعبلة كامل، لكن ماذا تفعل مع الأغبياء، والحقيقة أن الدكتورة درية لما تم رفع المسألة ليها، بوعي شديد أجازت الفيلم بدون تحفظ سوى في مشهد واحد هو أن البطل يذهب لحبيبته في شقتها بملابس منقبة لكي يهرب من الرقابة، وقالت لي إن هذا قد يثير مشكلة لا داعي لها، ووافقت على شيل المشهد، بعدها عرضت الفيلم على أكثر من منتج وتم رفضه لوجود تصور خاطئ كما أعتقد لدى الموزعين بأن ظهور بطلين قبطيين سيمنع توزيع الفيلم في بعض الدول العربية، وجريت على مؤسسة يوسف شاهين بالفيلم فعملوا لي البحر طحينة واتضح إني لازم أنتظر سنوات لغاية ما تخلص مشروعات قبلي جالها تمويل خارجي".
كان فايز غالي قد قدّم في فيلمه "يوم مر ويوم حلو" شخصية قبطية رئيسية، واعتبر ذلك وقتها محاولة للاقتراب سينمائياً من هذه الشخصية بعيداً عن التجاهل المعتاد والذي يتواطأ عليه الجميع، وكما يقول فقد أسعده "أن يتم استقبال ذلك من الشعب المصري الأصيل بحالة من الإعجاب والتقبل والرغبة في التعرف أكثر على عادات المسيحيين، حتى أنّ جاراً لي ظل 25 سنة في الكويت حرص بعد مشاهدة الفيلم على أن يعيّد علي في أحد الخوص، ولما لقاني بعدها معيِّد تاني، سألني إيه الحكاية فشرحت له واكتشف أنه لا يعرف شيئاً عن أعياد المسيحيين لإنه عمرها ما شافها في فيلم أو مسلسل".
يضيف فايز غالي قائلاً: "السينما المصرية على مدى تاريخها لم تكن مسألة التفريق في الدين مطروحة خلال العمل فيها، لأنه كان في حالة من الانسجام تجعل حتى الفنان المسيحي لا يفكر في التعبير عن مسيحيته، انظر مثلاً حلمي رفلة ونجيب الريحاني ورمسيس نجيب وغيرهم من الذين أثّروا في وجدان مصر، وحتى بعد هزيمة يونيو وبالتحديد في سنة 68 مع حكاية ظهور العذراء في أحد كنائس القاهرة واللي كتبت عنها الصحف والمجلات، لم يكن هناك نقاش بشكل مستفز حول هذه القضية، كل الظواهر السلبية المتعلقة بالتطرف الديني والفتنة الطائفية جاءت بعد السبعينات ومحاولة إغراق المنطقة في عنصرية دينية، وأنا عملت أفلام ومسلسلات كثيرة أبطالها مسلمون، وأذكر أنه جاء شخص يقول لي في فيلم (الطريق إلى إيلات) ما تعمل واحد من الأبطال مسيحي عشان تبرز الوحدة الوطنية، ورفضت لأن هذه توليفات عبيطة لا تخدمنا كمواطنين مسيحيين ولا تخدم الوطن كله، أنا كمسيحي في حياتي العادية أستشهد بآيات القرآن مثل ما أستشهد بآيات الإنجيل وكنت الأول على كليتي في الفلسفة الإسلامية التي كان يدرسها لنا في جامعة الإسكندرية المفكر العظيم د. على سامر النشار، لكن أرفض مسألة التلفيق لإظهار ما يتصور البعض أنه وحدة وطنية، وهو يؤدي إلى عكس هدفه".
القسيس والمأذون
المخرج الكبير خيري بشارة من أبرز الذين قدموا أفلاماً يظهر فيها الأقباط كجزء من نسيج المجتمع المصري بشكل ذكي ومختلف، فبالإضافة إلى فيلمه الجميل "يوم مر ويوم حلو" يقدّم مشهداً رائعاً في فيلم "أمريكا شيكا بيكا" حين يذهب أبطال الفيلم لدفن زميل لهم، وحين يقومون بصلاة الجنازة عليه، يكتشفون أن رفيق رحلتهم الدكتور فؤاد الذي يلعب دوره عماد رشاد مسيحي، لأنه لم يشاركهم في صلاة الجنازة وصلى على رفيقهم الراحل بطريقته، وهو ما قصد به خيري بشارة قائلاً لي: "التأكيد على مسألة المواطنة والإنسانية التي تجمع الناس ببعضهم، لتذكرهم الصلاة والشعائر الدينية فقط بإن ده مسلم وده مسيحي"، وهو ما يؤكد عليه كاتب الفيلم الدكتور مدحت العدل قائلاً: "كنت حريص إني ما أظهرش إذا كان الدكتور فؤاد مسلم ولا مسيحي، لإن ده اللي بيحصل في الحياة، كان عندي زملاء بعضهم جنبي في الدكة في المدرسة لسنين، لو اسمه مش مسيحي مش هاعرف ديانته، وأعتقد إن المشهد ده تكرر في حياة ناس كتير وعشان كده كان أعلى مشهد خد سوكسيه تصفيق في الفيلم وهو ما يثبت إن الناس العاديين ضد التفرقة وهو ما حاولت أن أعبر عنه أيضاً في فيلم (البطل) الذي كتبته فيه شخصية بيترو أو مصطفى قمر الذي يذهب صديقه الملاكم أحمد زكي إلى الكنيسة ليهنئه بزواج والده".
..
نكمل غداً بإذن الله.