لماذا عليك أن تقرأ "عائد إلى حيفا"؟
يختار الروائي الفلسطيني، الراحل غسان كنفاني، لروايتِه "عائد إلى حيفا" عتبةً نصيّة حائلة على المُستقبل بزمكانيّةٍ أقرب للحقيقة. فالعودة التي تناولها في الرواية لم تكنْ إلّا زيارة للوطن الضائع بحثاً عن ابنٍ تائه، فيما العودة الحقيقيّة هي تلك التي "تحتاج إلى حرب".
يزدحمُ طريقُ حيفا بذكريات وجُغرافية لا تنكر هذا "الزائر العائد"، بل ثمّة بيوت تُنكرُ التمتمات العبريّة والابن الذي لدغته الأفعى الصهيونيّة منذ شهره الخامس.
نحن أمام رواية مليئة بالضحايا، ولا أحد يتوقف بحثاً عن الترياق الذي لم ينجح بترويض الملدوغ. ومن هُنا سأُحدثك عن لعبة الحوار، وكيف نجح كنفاني باستنطاق الشخصيات، فأفسح المجال لمونولوجٍ مسموع، يطرح أسئلة ويبحثُ عن أجوبة على وقعِ تمتمةٍ تَعُدُّ ريشَ الطاووسِ الكنعانيّ. بيدَ أنّ هذا الحوار ينبثق من داخليْنِ، مُختلفيْن بالقضية، مُتشابهين بالدم، فأحدهُما تُرِكَ بالوطن وسكنهُ المنفى، والآخر غادر إلى المنفى وسكنهُ الوطن.
تنتهي لعبةُ الحوار بتحرُّكِ الآخر صوبَ المنفى، ربما بحثاً عن ترياق يروّضُ به سُمَّ الأفعى المُتغلغل بأفكار الابن التائه، أو لرُبّما ليرسُم خُطة العودة الحقيقيّة، ولكنه حتماً سيعود إلى حيفا.
والآن سَأُلقي عليكَ السؤال مرّةً أُخرى حتى تستفيق من خَدَرِ الكلام: لماذا عليك أن تقرأ "عائد إلى حيفا"؟ ولماذا عليكَ أنْ تقرأ لُعبة الحوار الكنفانيّ المصحوبِ بوقعِ عَدِّ الريشِ الكنعانيّ؟
سأُخبرك، فلربما كُنتَ باحثاً عن إجابة تُروّضُ بها نوبة استفحال الفضول لديك. ولكن دعني أولًا أُذكّرُكَ بما قاله كنفاني على لسانِ بطله "سعيد"، في مَطلعِ الرواية عندما رأى شوارعَ حيفا: "إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أنّنا أحسن منكم وأكثرَ رُقيّاً".
يزدحمُ طريقُ حيفا بذكريات وجُغرافية لا تنكر هذا "الزائر العائد"، بل ثمّة بيوتٍ تُنكرُ التمتمات العبريّة والابن الذي لدغته الأفعى الصهيونيّة
إنهم يقولون ذلك، وسيقولونه بطريقةٍ أو بأخرى، وغالباً لن يقولوه بحملةٍ عسكريّة أو مؤامرةٍ سياسيّة، بل سَيُلَفِقونه عبرَ لعبة بلاغيّة أشدّ فتكاً، وحتى سيبثونه عبر روايات مُحمّلة بخطابٍ مُمهدٍ للاستعماريّة (برهان ذلك، ما جاء به الناقد والمفكّر إدوارد سعيد).
وها هو، مؤسس الصهيونية الحديثة، ثيودور هرتزل، على سبيل التمثيل، يُصدر في عام 1902 روايته الأولى والوحيدة تحت عنوان "أرض جديدة قديمة". ومن مسرحٍ سادت بهِ الروايات الطوباويّة شرعَ يتنبأ ويحلمُ بإعادةِ بناء هيكل القدس، وشوارعَ تعتليها بيوت راقية بطابعٍ أوروبيّ وكلماتٍ عبريّة مسموعة.. وما لبث على ذلك أربعون سنة وأكثر، إلا وقد أعلن هجرته من دفتَيْ كتاب وزمنٍ طوباويّ إلى أرضٍ ملموسة وزمنٍ فيزيائيّ.
وعلى نقيض ما تسارع إلى ذهنك، فأنا لم أروِ لك ذلك لتعتقدَ بسذاجةٍ مُفرطة أنَّ هرتزل كان مشعوذاً أو عالِماً بالغيب، أو أنَّ الصهيونيّ صاحب عزيمة قادرة على تغيير الواقع؛ فالواقع (واقعنا نحن) ليس إلا نتاجاً لِلُعبةٍ بلاغيّة، وخطابٍ مُمَهدٍ للاستعماريّة، سلكهما هرتزل وأمثاله ليقوموا بضخ إيديولوجيا مسمومة لدى القارئ.
وأنتَ بوصفك قارئاً باحثاً عن إجابةٍ تروّضُ بها نوبةَ استفحالِ فضولك ستقرأ، ولن يكفيك هرتزل وحده، بل ستشرعُ باحثاً عن أمثال كتّاب مثل آرثر كوستلر وليون يورس أو حتى دانييل ديروندا، فما أصدرَهُ أمثال هؤلاء في فضاء القضية، وإنْ حملوا هوياتٍ إنكليزيّة، يندرج تحت مسمّى "الأدب الصهيونيّ"، الذي تناوله كنفاني بالبحث والتنقيب، ولا بُدَّ أنّك خمنتَ هُنا بأننِي سأقول لك إنّ عليك أن تقرأ كتاب "في الأدب الصهيوني" كما عليك أن تقرأ رواية "عائد إلى حيفا".
فإن زعمَ كنفاني في كتابه السابق أنَّ "الصهيونيّة الأدبيّة سبقت الصهيونيّة السياسيّة"، فإن العودة الاستشرافيّة التي قدمها كنفاني في "عائد إلى حيفا" ستسبقُ العودة الحقيقيّة المصحوبة بإيديولوجيّا فكريّة، قدمها كنفاني بمثابةِ ترياقٍ سَيُروّضُ سُمَّ الأفعى التي ستذهبُ نحوها بقدميك عندما تُقرّرُ أنْ تقرأَ نموذجاً أشبه بما ستقرأه برواية "أرض جديدة قديمة"، وإنْ استشرفَ هرتزل أنّ الصهيونيّة جعلت أرضنا أحسن مما كانت عليه، فقد استشرف كنفاني أنّهُ "كان بوسعنا أن نجعلها أحسنَ بكثير"، وسنجعلها كذلك باعتناقِنا للإيديولوجيا الكنفانيّة، لا الصهيونيّة.