هل تكلّم "التّابع" في "رأيت رام الله"؟
الوطن، المنفى، السّياسة، الاستعمار، العائلة، الترحيل، الموت، شجرة التين، المأساة، الملهاة... هي مفردات ومفاهيم وغيرها الكثير ممّا استحضره الكاتب والشاعر مريد البرغوثي، بواقعيّة بحتة داخل تجربته النّثريّة. ولا أعني هنا بالواقعيّة تلك المُنافية للخيال، بل مُنافية للغلّو في الوصف، سواء في أسطرة البطولة أو مسكنة التابع.
وعلى سبيل ذكر "رأيت رام الله" للبرغوثي على أنّها تجربة نثريّة، تُذكر الإشكالات المطروحة حول كونها سيرة ذاتيّة أو مكانيّة أو اعترافات، وحتى رواية، ورغم هذه الإشكالات لا بُدّ من الاتفاق على أنها "تجربة وجوديّة"، "تكلّمها تابع".
وفي ضوء استحضاري لمصطلح "التّابع" (subaltern)، العائد إلى الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، سأبدأ بتفكيك ما ذكرته أعلاه: "تكلمها تابع"؛ فتوظيفي لمصطلح "التّابع" مُقتبس من أحد أشهر البحوث العالميّة المُدرجة ضمن "دراسات التّابع"، ومن خلال كتاب "هل يستطيع التّابع أن يتكلم" للناقدة جاياتري سبيفاك، التي تطرح في كتابها هذا إشكالًا رائجًا ضمن دراسات التّابع.
والتّابع الذي أقصِدُ إسقاطه على "الكاتب السّارد" في هذا المؤَلّف هو "المُستعمَر"، ولكنّي، رغم هذا الإسقاط، لا أجزم بالتطابق التام بين مُريد والتّابع المُدرج ضمن دراسة "سبيفاك" سابقة الذكر، كما التطابق الذي عملته "ذات التّلفُّظ " في هذا المؤَلف مع الكاتب والسّارد والشخصيّة في آن واحد.
لا يزالُ التابع مُهمّش الصّوت في مؤتمرات الاستعمار، مُنعدم الشكوى إلى غير التابعين
وأمّا بما يتعلّق بإسقاطي لصورة "التابع المُستعمَر" على نص مريد البرغوثي، فقرينةُ ذلك عدد من المشاهِد المُكرّرة عند معظم التابعين المُستعمَرين، وفي وسعي أن أجمعها في مشهدٍ واحد أقرب لرواية مُتكاملة العناصر؛ المكان: منفى، الزمان: مؤقت، الشخصيات: مُستعمِر ومُستعمَر، العقدة: الاستعمار، الحل: انتقال التّابع من التّكلّم على مستوى الخطاب الأدبي إلى التّكلّم على مستوى الخطاب السّياسيّ.
وعلى صعيد الخطابين المذكورين أعلاه، أستطيع الانتقال إلى تعليل توظيفي للفعل "تكلّمها"، فالتابع هُنا وعلى مستوى الخطاب الأدبي، يتكلّم هو "إلى ..."، بعدما كان يُتكلَّم "عنه"، وهذا الانتقال لم يصلْ إلى الخطاب السّياسيّ بعد؛ فلا يزالُ التابع مُهمّش الصّوت في مؤتمرات الاستعمار، مُنعدم الشكوى إلى غير التابعين كما أوضح مُريد في سطوره الآتية: "نطلب خطوة من رئيس وزرائهم فيرفض، نحرد ونغادر الجلسة ونشكو أمرنا لزوجاتنا ولبعض الصحفيّين".
المشهدُ الواقعيّ المُتمثّل بهذه السطور أقوى من جعل المُتلقي يقرأ، بل يحيله إلى مُعايشة التّفاصيل كما جرى في أكثر من موضعٍ داخل المؤَلّف؛ فقد بكينا لموت منيف، وضحكنا تارةً على تميم، وتحمّسنا لنشر القصيدة الأولى، ورقصنا لظلال الوحدة، واعتصمنا أمام خطابات السّلام، ونعيش على احتماليّة تكلّم التابع على مستوى الخطاب السّياسيّ.