لم يعد الموت يخيفني
لم يعد الموت يخيفني أو يقلقني منذ سنوات طويلة، والآن أكثر. أقصد موتي بالدرجة الأولى. أيضاً، وبدرجةٍ أقل، لم يعد يخيفني أو يقلقني موت من أحب. الذين يموتون يرتاحون، وبإمكان الأحياء الاحتفاظ بذكراهم إلى أن يموتوا هم أيضاً. الموت يشبه نهاية فيلم، سواء كان ذلك الفيلم جميلاً أو بشعاً، فنهايات الأفلام والقصص والحيوات هي نفسها. بعد الجنريك تأتي شاشة سوداء محايدة، لا يعني سوادها أيّ إشارة إلى الحزن، ولا إلى الفرح بقدر ما يعني النهاية فقط، نهاية الحزن ونهاية الفرح، نهاية الانتظار ونهاية الوصول، نهاية كلّ شيء بالضبط، وهي (النهاية) أعمق حدث أنطولوجي يعرفه العالم منذ بدايته إلى نهايته هو أيضاً. إنها ببساطة شديدة العودة إلى الحالة صفر من الوجود ومن العدم أيضاً.
أعشق تلك الموسيقى التصويرية للأفلام التي تعوّض الكلمات والمعاني بالأحاسيس المجرّدة فقط، أحاسيس متجاوزة لكلّ إدراك، أحاسيس من نوتات موسيقية تذكر بنظرية الأوتار الفائقة والأكوان المتوازية.
كلّ من يموت يتخلّص من عبء كبير ينتظره في الغد. أن يقوم من سريره مثلاً، وأن يتوّجه قسراً إلى مرحاض، أن يذهب قسراً إلى العمل، أن يُرضي قسراً شريكه في البيت، أن يقلق على أطفاله، أن يضطر إلى نشّ ذبابة، أن يقلق بسبب سوء الطقس وانتشار وباء أو فيروس، أن يتنصل من ديونه، بحيث لا أحد سيأتي ليطالب ميتاً بأداء فاتورة الإنترنت أو أقساط شراء البيت أو مؤخر الصداق. الدائنون أنفسهم يعرفون في صمتٍ وانهزام أنّ الميت قد انتصر عليهم بموته، كما لو أنّ الموت إعفاء كامل من الضرائب ومن كلّ شيء.
ستفقد كثيراً من الفرجة والمتعة والطعم الساحر للآيس كريم، لكنك ستفقد مع ذلك أيضاً آلامك وتعاستك وقلقك اليومي وطغيان التفاهة التي تسيطر على العالم يوماً بعد يوم. ستعود في لحظة واحدة وسريعة، هي لحظة الموت، إلى الحالة الأولى للمصنع. كما في الأجهزة الكهربائية والإلكترونية. الحالة صفر، قبل اكتشاف الإنسان لأدوات الزراعة والصيد والحرب، ستعود مباشرة إلى ذلك الإحساس العميق الأوّلي والبكر بالطبيعة، برائحة التراب والمطر والأزهار ودغدغة نملة لإبط وجودك، حيث إنك ستصير بالكامل إبطاً تدغدغه الحشرات. بعد ذلك لا يهم أن تتحوّل ذراتك إلى زهرة أو إلى عداد كهربائي، ستكون قد فقدت ذاكرة الشخص ووعيه لتكتسب من جديد كما قبل ولادتك ذاكرة العالم.
هذا ببساطة شديدة هو الموت. في حقيقة الأمر، إنه نهاية كابوس تتخلّله الأزهار والقبل والرقص، بحيث مع الوقت، تصير الأزهار والقبل والرقص وكلّ ملذات الحياة أكثر إرعاباً حتى من الأشباح. ثم يأتي الموت ليخلصك من كل ذلك. يأتي الموت ليجعلك تقول في نفسك أو تقول الطبيعة ذلك عوضاً عنك: الحمد لله لقد كانت الحياة مجرّد حلم فقط، مجرد كابوس، وها إني أستيقظ منه الآن. أستيقظ وببساطة سيسامحني الله لأنه يعرف جيداً أني كنت في الجحيم. تكون قد نفذت سنوات عقوبتك بنجاح وقد جاء الفرج أخيراً...
يأتي الموت ليجعلك تقول في نفسك أو تقول الطبيعة ذلك عوضاً عنك: الحمد لله لقد كانت الحياة مجرّد حلم فقط، مجرد كابوس، وها إني أستيقظ منه الآن
فيما مضى شكّل لي الموت هاجساً مرعباً، أكثر رعباً من الموت نفسه. أخافتني القبور والمقابر دائماً، أخافتني الأكفان والحنوط والشواهد، أخافتني التعاويذ والطلاسم، حتى سيارة نقل الموتى شكّلت لي رعباً مستمراً، كلما رأيتها أشحت بوجهي بعيداً. لم أزر المقابر إلا في مرّات معدودة على الأصابع، وبسبب تلك الزيارات القصيرة طار النوم من عينيّ شهوراً وسنوات. أرى الأموات في أحلامي، أرى الأشباح والمقابر والديدان، أرى الجن والصديد والنيران المستعرة، أرى جماعة من الغرباء الملثمين يقتربون مني، يحملونني قسراً، أربعة ملثمين شداد غلاظ، كلّ واحد منهم يحملني من طرف، من اليدين ومن الرجلين، وأنا أقاوم. أنتبه إلى أنهم حفروا قبراً تحت سريري دون أن أفطن إلى ذلك:
- ماذا تريدون مني؟؟
- أنت ميت نريد أن ندفنك.
- كلا ما زلت حياً.
- كلا أنت ميت.
-ألا تلاحظون أني أتكلم وأسمع وأرى؟
-حتى الموتى يتكلمون ويسمعون ويرون.
أنتبه إلى أني لم أعد أرتدي ثيابي بل أرتدي كفناً، أبيض، ناصعاً، رهيباً، وأشمّ رائحة الحنوط. ينزلونني داخل القبر ثم أنتبه إلى أنّ في يد كلّ واحد منهم جاروفاً. يبدؤون بإهالة التراب فوقي وأنا أصرخ، والتراب يدخل في فمي وعيني وأنفي وأنا أختنق وأصرخ بصعوبة:
-أنا حي.. أنا حي.. أنا حي..
أستيقظ أخيراً... إنه كابوس كالعادة. أحمد الله أنه مجرّد كابوس. أنا مستيقظ الآن. أفكر قليلاً فلا أعرف: هل كان ذلك الكابوس في حياتي أم في موتي؟ وهل استيقظت في موتي أم في حياتي؟ وهل سأستطيع العودة إلى النوم بعد كلّ ما رأيت؟ وهل سأستطيع أن أبقى مستيقظاً دون نوم حتى يغمى عليّ وأموت ويأتي أولئك الرجال الغريبون لدفني من جديد؟ ألاحظ أنّي تعرّقت، ألاحظ أنّ قلبي يخفق بقوة وأنّ الأثاث في الغرفة والثياب بدأت كلّها بالتحرّك في اتجاهي في هيأة أشباح...
سنوات طويلة وأنا أصارع هذه الهواجس والأوهام والمخاوف السحيقة، إلى أن صرعتها عوض أن تصرعني. لم يحدث ذلك فجأة، بل بعد حرب عصابات داخل الأعصاب طويلة ومريعة ولولبية للغاية. لم أعد أخاف من الموت بعد ذلك.
في البداية قاطعت المقابر بسبب خوفي من الموت، أما في النهاية فقاطعت المقابر بسبب عدم خوفي من الموت
أخيراً.. أصبحت أزور المقابر دون مناسبة، وأقرأ بصوت مرتفع ما كتب على الشواهد من طلاسم رهيبة دون أن أشعر بأيّ رهبة وألمس القبور كما لو أنها مواقع أثرية لا أقل ولا أكثر. أخذت الراحة تعود إليّ نفسي وروحي بالتدريج إلى أن طردت كلّ الشياطين المسيخة، وكلّ تجار الدين، وكلّ المشعوذين وحاملي المباخر الصغيرة السحرية من روحي. طردتهم جميعاً، وكنست روحي بعد ذلك، ونظفتها بمعطر شِعريّ، فارتحت بالكامل واطمأنت نفسي بالكامل. لقد تصالحت مع الموت بعد أن خاصموني معه سنوات طويلة.
بعد ذلك لم يعد يثيرني أن أزور المقابر ولا أن أذهب في جنازة. فقد فَقَدَ ذلك كلّ دهشة. في البداية قاطعت المقابر بسبب خوفي من الموت، أما في النهاية فقاطعت المقابر بسبب عدم خوفي من الموت، لا شيء يجذبني اليوم لزيارتها.
حتى عند موت أحد الأحبة، أفضل أن أحتفظ بصورته في ذهني وهو حي، حيث لا صورة له وهو ميت، على أن أذهب به معهم إلى مقبرة. أفضل أن أسمع موسيقى جميلة وأنا أتذكره، أن أشرب كأساً في صحته، أن أذرف دمعة عند النافذة وأنا أتأمل الغيوم، وأفكر في غيابه ذاك، وفي فراقه العابر الذي يشبه فراقاً عند محطة قطارات... بل إنها دون شك خيانة أن تذهب إلى مقبرة وأن تشارك في إهالة التراب على من تحب، لأنّ المقابر الحقيقية توجد في الذاكرة لا على أطراف المدن والقرى.
أعتبر الآن أنّ كلّ من مات: ارتاح، وأنّ المصيبة تكمن في أن تكون حيّاً أكثر مما تكمن في أن تكون ميتاً، وأنّ الذين يتألمون بسبب الموت (كما قال كثير من الشعراء والحكماء منذ القدم) هم: الأحياء أنفسهم وليس الموتى.
أن تذهب إلى مقبرة وتشارك في إهالة التراب على من تحب... خيانة دون شك
إنّ ما يرعب حقاً هو أن تتألم وأنت حي، أن ترى الخداع والألم والمعاناة، أن ترى الشراسة والإعاقة والعجز، أن ترى مريضاً يتألم، أن ترى جائعاً، أن ترى أسيراً، أن تمرض أنت وتتألم، أن تجوع، أن تهان، أن تعود من حرب أو من شارع برجل واحدة فقط، تاركاً الرجل الأخرى تسبقك وحدها إلى الموت، إلى الراحة الأبدية، متخلية عنك، رافضة أن تجرجرها أكثر في طرقات ومسارب وأوحال، بحيث ستتألم وحدك دون أن تتألم هي التي تحرّرت منك، والصحيح في تلك الحال ليس هو أن نقول: لقد فقد رجله. بل أن نقول: لقد فقدته رجله، فقدته، ماتت وارتاحت من المشي ومن العثرات، بينما ما زال هو يمشي، برجل واحدة، يمشي ويمشي ولن يرتاح إلا حين: يتبع رجله...
اذهب إلى مقبرة عند الغروب، ادخل وتمشّ قليلاً بين القبور، مبتسماً غير عابس، تأمّل النباتات على جوانب القبور. القبور ليست سوى أصص كبيرة. التقط غصناً وشمّه بعمق، اقترب من زهرة قرب شاهدة وأخبرها أنها جميلة. قف وتأمل المقبرة كاملة، دفعة واحدة، على أشعة الشمس الذاوية... كما لو على إيقاع موسيقى آلة كونترباص أجش ووحيد... لقد عاش كل أولئك الناس كما تعيش أنت الآن، حلموا كما تحلم، بكوا كما تبكي وضحكوا كما تضحك... والآن يا صديقي إنهم نائمون في سلام بعد أن انتهى كلّ شيء، ولم تبق هناك سوى القصص وسوى الكلمات، نائمون وفقط... هذا شيء عظيم، درامي للغاية، لكنه في الحقيقة ليس حزيناً وليس باعثاً على الخوف.
لا تخف، لا ترتعب، المس القبور، اقرأ الشواهد وتأمّل الخط الجميل الذي كتب عليها... أنت في الأصل زهرة في حقل يجب أن تعود ذات يوم إلى حقلك، حيث للشمس معنى، وللمطر معنى، وللهواء معنى، وللعدم أيضاً معنى أقدم وأعمق من معنى الوجود، وأوجد منه...