ليسوا أربعين ألف قتيل!
من فواجع الفواجع أنها سرعان ما تتحوّل إلى إحصائيات وأرقام، وإلى أعداد في عواجل، وإلى تحديثات مستمرة بأنّ الألف صاروا عشرة آلاف، والعشرة آلاف صاروا عشرين ألفًا... لا أسماء، ولا كلمات، ولا حروف، هو ضجيج عدّاد لا يتوقف، لا يمهل الناس دقائق حتى يستوعبوا، أو حتى يقرؤوا الأسماء. في البداية يكون الأمر صادمًا، ثم مع الوقت، حين تتسع الكارثة، وتتعاظم الفاجعة، وتتضاعف الأعداد، تخفّ حدّة الشعور بالحقيقة، يتبلد الإحساس، يتناسب حجم الكارثة عكسيًّا مع اهتمام الناس بها، فكلّما كبر الرقم قلّ الكلام.
حين كتبت المسوّدة الأولى للمقال قبل يوم واحد كان العنوان "ليسوا ثلاثين ألف قتيل"، ثم حين أردت كتابة المسودة الأخيرة اليوم عدلتها لأربعين ألف قتيل، عشرة آلاف زادوا دفعة واحدة، ثم حين ينشر المحرّر المقال، فبكل تأكيد سيكون العدد أكبر، ثم حين تراه يا سيدي القارئ، وتصل إلى هذا السطر الآن، فراجع العاجل الأخير عن الحدث، ستجده أكبر.
لكن الحقيقة (مع احترامنا لغرف الأخبار وبيانات وزارة الصحة وإدارة الكوارث والطوارئ) أنهم ليسوا أربعين ألفًا، ليسوا أربعين ألف قتيل، ولا أربعين ألف ضحية، ولا أربعين ألف وفاة، ولا مصرع أربعين ألفًا، ولا أيًّا من الصيغ الخبرية. دعونا نتمهل قليلًا، وندرك أنهم بالفعل أربعون ألف حياة، أربعون ألف حكاية، أربعون ألف قصة، أربعون ألف شخصية مستقلة مختلفة، أربعون ألف شبكة من الأبعاد الإنسانية والاجتماعية، أربعون ألف إنسان، ووجهة نظر، وطريقة مفضلة للحياة.
أربعون ألف أحبك، وكيف حالك؟ وتصبحين على خير، واشتقت إليك، وسأراك غدًا، وأنا بجوارك، ولا تنسَ دعاء النوم! أربعون ألف ارتدِ الجاكيت، ولا تترك النافذة مفتوحة، واتصل بي فور وصولك، ولا تخرج من الحمام إلى الهواء مباشرة، وطمئنّي كلّ صباح عليك. أربعون ألف أنا آسف، وحقك عليّ، ولا أعيش من دونك، وسنحتفل معًا العطلة القادمة. أربعون ألف ملعقة، وشوكة، ومكان ممتلئ على السفرة، وطبق شوربة عدس دافئ، و"مناب" مفضّل من الدجاج واللحم، ونكتة ملقاة على الطعام، وخناقة لذيذة متكرّرة كلّ غداء، وكوب شاي لا يستطيع أحد آخر تلقيمَه بهذه الحلاوة، وفنجان قهوة من يدٍ تصنعه بحبّ.
الضحايا أكثر من أن تحتويهم لوحة عملاقة في نصب تذكاري، وأكثر تعقيدًا بكثير من كونهم خبرًا يقول "ارتفاع عدد ضحايا زلزالي تركيا وسورية إلى أربعين ألف قتيل"
أربعون ألف قَصة شعر، ولفّة طرحة، وتصفيفة مختلفة، وملامح خاصة، وضحكة لها رنين ووقع ومعجبون ومريدون، ودموع لها سرعة وغزارة ورائحة وطقوس دون غيرها، وابتسامة لها شكل مميّز على الثغر، لا تشبه أيٌّ منها أيًّا مما لغيرها.
أربعون ألف نفَس، وتنهيد، ونشيج، وصوت، وحديث، وعقل، وفكرة، وروح، وأنس، وقلب، وإحساس، وذهن، وذاكرة، وماضٍ، وذكريات، وحلم، وأمل، ورسالة، ومذكرة، ومفكرة، ويومية، وتقويم، وأمنية، وعُمر، وتاريخ، وقصيدة، ونَص، وخُطبة، ورواية، وبيتٍ، وغرفة، وسرير، ووسادة، ومكتب، وقلم، وورقة، وخاتم، ودبلة، وعقد، وقلادة، ومفتاح، وأسرة، وعائلة، وحبيبة، وزوجة، وأم، وأخت، وابن، وابنة، وطفلة، وصديق، ورفيق، وصاحب عُمر، وشريكة حياة!
ليسوا أربعين ألف قتيل، بل أربعون ألف "مليون تفصيلة" في أربعين ألف حياة لا وفاة، أربعون ألف شبكة معقدة هائلة من الأشياء داخل كل واحد، من الأربعين ألف ضحية؛ ليس الرقم كما يظهر على الشاشة ولا في شريط أحمر متقلب، ولا كما تقول البيانات الرسمية ولا إحصاءات هيئة الطوارئ، ولا كما تنعاهم الصحف ولا مثلما يعزيهم الساسة؛ هم أكبر من ذلك كله، وأثقل مما تستطيع لغةٌ واحدةٌ أو ترجماتها حملَه، وأوسع من أن تشملهم مقابر جماعية أو مراثي جماعية، وأكثر من أن تحتويهم لوحة عملاقة في نصب تذكاري، وأكثر تعقيدًا بكثير من كونهم خبرًا يقول "ارتفاع عدد ضحايا زلزالي تركيا وسورية إلى أربعين ألف قتيل".