مجنون يتسوّل بطريقة عاقلة
خديجة الْحَمْقَة، مجنونة رسميًا بأوراق جنون ثبوتية، تجلس على الْفرّاكة (أداة تصبين) وتتزلّق عبر الزقاق الطويل المنحدر المجصّص حديثًا، مزغردة وصارخة: الخيل، المكاحل (البنادق)، البارود..
مجنونة، ورغم ذلك كان بيتها نظيفًا وثيابها نظيفة دائمًا رغم أنها لا تتغيّر وابتسامتها لا تغرب. ابنها، عبد الله الأحمق، مجنون أيضًا. هناك من يناديه الْهْبيل فقط مع رفع الكلفة. شديد الطول والنحافة، يرتدي جلبابًا ويجلس عند باب الجامع نهاية كلّ صلاة. فمه خال من أيّة أسنان، وعمره مجهول. لقد ظلّ ثابتًا لسنوات طويلة، لا يكبر ولا يصغر. يتبع البنات الجميلات طالبًا منهن الزواج، ليهربن منه مقهقهات، وهو يركض خلفهن رافعًا الجلباب حتى ركبتيه كديكٍ هائج يتبع دجاجات سمينات.
أوراق حمقه مختومة أيضا بختم مستشفى برّشيد (ابن رشد) للأمراض العقلية. وهو مجنون بشكل رسمي أيضًا، لكنه رغم ذلك يتسوّل بطريقة عاقلة شديدة الانضباط، أمام باب المسجد، أو عند مدخل الْجوطيّة (السوق)، حيث الحركة دؤوبة والمحسنون بلا حساب. يتأبّط قفة باستمرار، يملأها خضارًا وفاكهة، يشتري شمعةً وعلبة شاي، وقالب سكر، وربطة نعناع عبديّ (نسبة إلى منطقة عبدة)، ويعود إلى البيت صاعدًا عقبة جوطيّة دوّار الحاجّة ثم منحدرًا عبر جبل الرّايسي بعصا في يده. أحيانًا بخطوات معتدلة عاقلة، وأحيانًا راكضًا متقافزًا كتيس، كأنّه يدوس على جمر وهمي دون أن تنفلت القفة من يده أو أن يَسقط منها شيء، فيما الأطفال خلفه عند مدخل الحي في موكب استقبال كبير يصرخون: عبد الله أعطينا تفاحة، عبد الله أعطينا ليمونة.. بينما تقف خديجة الحمقة أو تجلس على عتبة بيتها منتظرة قدومه.
يصل أخيرًا. يتفرق الأطفال هاربين كأرانب مذعورة بعد أن يهشّ عليهم بعصاه. يمدّ لخديجة القفة وكلّ ما يلزم، ثم تدخل لتطبخ العشاء وتشحّر الشاي، ورائحة مرق جنونية لذيذة تنبعث من نافذتها الصغيرة المسيّجة بشبّاك قن دجاج.
ينزل عبد الله نافخًا بفمه الأدرد في الزقاق كالغيّاط (عازف الغيطة) في غيطة (آلة موسيقية شعبية) وهمية يراها وحده، وكلّما قفز قفزة مفاجئة كعادته يقرقع صرف الدراهم والريالات الكثيرة في جيبه.
بينما يجلس عبد المجيد العاقل طيلة النهار على كرسي صغير بجيب فارغ، يدخن الكيف، ويشتم زوجته زايدة التي تطلّ عليه من الباب بين فينة وأخرى كسحلية تطلّ من جحرٍ قبل أن تصفق الباب في وجهه. يقف ويصرخ: هات الشاي إلى هنا يا زوجة النحس.
ترد عليه من داخل البيت: وأين هو الشاي يا تركة الزلط (الفقر)؟ لقد طحنتَه ودخنتَه هو أيضا كِيفا كعادتك، اذهب لتعمل كأسيادك إن أردت شايًا..
يرفع عبد الله الهبيل عكازه إلى السماء كبندقية ويصرخ: الخيل، المكاحل، البارود.. ثم يركض في اتجاه الجامع مقلدًّا فرس التّبوريدة (عروض الفروسية في المواسم الشعبية) حين ترمح بفارسها وتسقطه.