"مسرحية" هروب الأسرى الفلسطينيين
ما إن انتشرت أخبار عملية هروب الأسرى الفلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي؛ حتى انطلقت معها نظريات المؤامرة التي ترى أن الأمر بكامله مسرحية ومخطط من الموساد، لاستحالة أن يتمكن أحد من الهروب من قبضة إسرائيل أصلاً.
بدأ الأمر بهمهمات وغمزات في بعض المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم راح يتطور إلى مطولات تطرح التساؤلات المشككة عن التوقيت والإمكانية والعلاقة و....
خلال نصف قرن من حكم أنظمة فاشلة احترفت بيع الكلام وإطلاق التهديدات الفارغة وادعاء الصمود والمقاومة والممانعة؛ ترسّخت في لا وعينا صورة إسرائيل الدولة لا تقهر بالفعل، والتي لا يمكن المساس بها أو هزيمتها، الدولة التي تحرّك كل شيء في المنطقة بل في العالم، وترسم المصائر والمقادير.
لم تأتِ هذه الصورة بشكل اعتباطي أو بالصدفة، لقد اشتغلت عليها الأنظمة العربية الدكتاتورية مطولاً، فعندما يكون خصمك قوياً وخارقاً وجباراً يكون مبرراً لك سحق أية تطلعات تحررية أو ديمقراطية لشعبك، واتهام أي صوت معارض بأنه عميل وخائن وجزء من مؤامرة يقودها هذا الخصم، وكل ذلك تحت مبرّر التفرّغ لـ"المعركة المصيرية". وشيئاً فشيئاً أصبحت هذه الأنظمة حريصة على استمرار وجود هذا الخصم، لأن استمرار وجوده يعني استمرار وجودها، وتحولت من القتال ضده إلى حارس لأسواره!
تحوّل عايشناه، معشر السوريين، مع أشخاص وفصائل وتنظيمات انطلقت للدفاع عن ثورتنا ضد نظام مجرم ثم اكتشفت أن مصلحتها في بقاء هذا النظام، لأن زواله يعني زوالها!
ترسّخت في لا وعينا صورة إسرائيل الدولة لا تقهر بالفعل، والتي لا يمكن المساس بها أو هزيمتها
تحوّلت إسـرائيل من "العدو المغتصب" إلى "الإله المنيع" الخارق، بل إنها في بعض الأحيان، وبسبب النظرة ذاتها، أصبحت "الإله المخلّص"، وراح البعض يعقد عليها الآمال بالخلاص من حكم الدكتاتورية، وكأنه مصاب بـ"متلازمة استوكهولم" حيث يتعاطف الضحية مع المعتدي ويتعاون معه!
وقد راقت لإسرائيل هذه الصورة، وصدّقت نفسها، وراحت تتصرف في المنطقة من المنطلق ذاته، الذي رسمته لها الأنظمة الحمقاء، وورثت الشعوب عنها ذلك التصوّر.
ولكن في خضم كل هذا التعملق، كان هناك من يرى إسرائيل بعين مختلفة... من؟ القريب!
بعدك عن أية ظاهرة يجعلها مخيفة لك وغير مفهومة، بل قد يدفعك أحياناً لعبادتها كما فعل أسلافنا القدامى، ولكن القريب من الخصم، الذي يتعامل معه دائماً، الذي يواجهه يومياً، الذي يعرف بنيته الداخلية وتركيبته ومشكلاته وهمومه وعلله؛ هو من يرى الخصم بصورته الحقيقية بدون عدسات مكبّرة ونافخة!
وفي حالتنا هنا... هذا القريب هو الفلسطيني، الذي جمعته مع إسرائيل عشرات السنوات من النضال والمواجهات اليومية. يعرف هذا الفلسطيني أن "الإله المنيع" تنال منه حجارة الأطفال، وزجاجات المولوتوف، والبالونات الحارقة، والإضراب عن الطعام، والعصيان المدني، وأخيراً الصواريخ بدائية الصنع!
متى كانت أية عملية هروب من سجن عملية منطقية أو معقولة؟
أتفهّم جيداً نظرة البعض بريبة وتشكيك كبير لحادثة هروب الأسرى عبر نفق حُفِر بأدوات بدائية على مدار سنوات، وأتفهم أيضاً كل نظريات المؤامرة التي يحاول البعض سوقها لتفسير الأمر "غير المعقول".
يمكن لنا أن ندرج ذلك كله في محاولة التأكيد على صورة العدو المنيع الخارق، ورفض إمكانية المساس به، وإن تعرض للهزيمة فذلك لأنه هو من يريد ذلك لا لأنها فُرضت عليه.
الأمر هنا مشابه لما حدث في موجة ثورات الربيع العربي، فالأنظمة المتألهة سقطت فجأة، سقطت هيبتها والرعب الذي زرعته في قلوب شعوبها واكتشفت أجيال من الشباب أن الأنظمة التي حكمت آباءهم بالحديد والنار هي بشر مثلهم! بل إن لقادتها الذين كان ذكر أسمائهم كافياً لإثارة الهلع؛ تصرفات مضحكة ومغرقة في الغباء.
فلماذا نستكثر اليوم على الفلسطيني أن يعيش ربيعه ضد خصمه، وأن يدمر صورة الخصم المنيع القابعة في مخيلتنا؟ هذا الفلسطيني الذي عايش سجانه لسنوات طويلة، وعايش نظام السجن وإجراءاته الأمنية لمئات الليالي، ثم متى كانت أية عملية هروب من سجن عملية منطقية أو معقولة؟ أظن أن أي هروب من أي سجن في العالم هو عمل مجنون وغير منطقي.
إسرائيل نفسها التي صدّقت مناعتها تعيش اليوم ذهول ما بعد العملية، وتكاد لا تصدق أن أحداً تجرأ عليها للمرة الثانية خلال أشهر بعد صواريخ المقاومة الفلسطينية التي طاولت كل مناطق الكيان، المناطق التي حرّمت علينا الأنظمة التفكير بإمكانية المساس بها أو الوصول إليها!