مصر بين بحرين!
في الشمال، تتلاطم أمواج البحر الأبيض المتوسط، التي تمثل مصيفًا رخيصًا للطبقة المتوسطة التي لم تعد موجودة، بقي البحر واختفت هي، ولكنها أيضًا لن تستطيع إلقاء نظرة عليه من شباك الميكروباص أو "المشروع" في الإسكندرية، بسبب حواجز خرسانية ضخمة كمثل التي على الحدود بين مصر والأراضي المحتلة، أو مثل التي تعزل مدن فلسطين في الداخل والضفة بعضها عن بعض، فمن أنت حتى تنظر إلى البحر في مصر؟ وابن من؟ كلّ هذه أسئلة يتوّجب عليك الإجابة عليها قبل إلقاء نظرة.
البحر ذاته بالنسبة للفقراء لن يمثل مصيفًا، وإنما حلمًا يساوي راتب شهرٍ لموّظف، حتى يُنفق على رحلة اليوم الواحد، ذهابًا وإيابًا بأسرته، عن طريق المواصلات، وبأرخص طرق الاستمتاع بالأجواء والمياه والطعام، وبالتالي، لن يذهب إليه إلا في أحلامه، جالسًا على الشاطئ، سائلًا الإسكندرية: متى صرتِ شاطئًا عصيًّا على "ولاد الكلب الشعب"؟
أما بالنسبة لأبناء الأقاليم والصعيد (وسط وجنوب مصر)، الذين لا يرون بحر الإسكندرية ولا غيره إلا في حصة الجغرافيا، فإنّ تلك المياه لا تمثّل إلا شيئًا واحدًا، حين يبيع أهلوهم كلّ ما يملكون من حيَل في هذه الدنيا، ليجمعوا لهم تذكرة عبور إلى الجانب الآخر في ليبيا، ليدفعوه إلى المهربين، حتى ينقذوهم من البلاد التي تأكل فيهم بأيديها وأسنانها، وحينها يصبح للبحر المتوسط معنى آخر، بعيدًا عن شط الإسكندرية والتروماي وكبدة الفلاح وجيلاتي عزة؛ يكون المعنى هو "طريق الموت" الذي إن عبروه ربما يجدون الحياة في أوروبا، على الضفة المقابلة.
على شاطئ البحر المتوسط، سيجلس الآلاف يراقبون الأمواج وهي تهدم قصورهم التي بنوها من رمال، يرن تحطّم أحلامهم عليها، يتسابقون فيما بينهم على من يرمي الحجارة في المياه لتصل أبعد، بينما هو تمرينٌ جماعيٌّ للتخلص من الأحزان المتراكمة والهموم كبيرة الحجم، عن طريق حصى صغيرة، سيشعرهم البحر بالحاجة الملحة إلى البكاء، سينزله البعض لينفجر، وتتخفّى دموعه بين الأمواج المالحة، ولن يسأل أحدٌ مصطافًّا خارجًا من المياه للتوّ، لماذا تغرق عيناك بالماء؟
على شاطئ البحر المتوسط، سيجلس الآلاف يراقبون الأمواج وهي تهدم قصورهم التي بنوها من رمال، يرن تحطّم أحلامهم عليها
أما شرقًا، فيبدو البحر الأحمر مختالًا بجماله، بشعابه المرجانية، وشَعبه المرجانيّ، بالسيارات الفارهة التي تعجّ بها مداخل المنتجعات وشوارع القرى السياحية، ونوعية "الصن بلوك" الذي يستخدمه المقيمون، الذي ربما يعادل راتب موظف من الذين يجلسون في الشمال على الرمال الساخنة مباشرةً.
في الطريق إلى هناك، سيفاجأون بمعاملةٍ مختلفةٍ تمامًا، دولة أخرى، يتمنّى أيّ سائحٍ أن يعيش فيها على الدوام، بحرٌ ومدنٌ تتصاعد منها روائح من زارا، من أقلّهم غنى، ومن سوفاج، وهوجو بوس، وعطور اللوشن والشاور جل المستوردة، وسيجدون الدولة في طريقهم، جميلةً، متأنقةً، تسدل شعرها في الهواء الطلق، بلا مخالب، ولا طبنجات، ولا كلابشات، ولا قوائم منع من السفر أو ترقب وصول، توزّع عليهم الورد والابتسامات، وعلبًا ممتلئةً بشكولاتة كيت كات وإم آند إمز، ونظارات السباحة وأطواق البحر، وتقول لهم: "حمد الله على السلامة"، كأنهم نجوا للتوّ من العاصمة التي تحترق.
وليس الذنب لهؤلاء ولا لهؤلاء، فليست جريمة الغنيّ أنّ السلطة تمنحه ما يجعله فاحش الثراء أكثر، وليس ذنب الفقير أنه لم يصبح غنيًّا كأنه تخلّف عن مقعده الدراسيّ، وإنّما لأنّ السلطة تجلس بين بحرين، بحرٍ للنقاهة، وبحرٍ للقمامة، بحرٍ للعب الطائرة، وبحرٍ للعبِ لعبة الحظ، بحرٍ لأهل "إيجيبت"، وبحرٍ لأهل مصر، بحرٍ لمن يهوون رياضة الغطس، وبحرٍ لمن يهوون بلا إنقاذ، مستقرين في أعماق المياه للأبد، متحلّلين على صخور المتوسط العميقة، أو منتهين وجبةً غنيةً لنوع مفترس من الأسماك، بحرٍ للنزهة، وبحرٍ للهجرة، بحرٍ لأولاد الذينَ، وبحرٍ لأولاد الكلب.. بحر للحياةِ، وبحرٍ للموت.