ملف| عراء في غزّة (32)
وفي العراء، هناك، على الحدود المصرية الفلسطينية التي لا يخترقها إلا التنسيق بين الدولار والجنيه والشيكل، نصب شعيب خيمة لعائلته الصغيرة. لا مكان في رفح لموطئ قدم. لا في المدارس، ولا في المستشفيات، ولا في مراكز إيواء تحوّلت إلى تلك الوظيفة الطارئة بسبب الحاجة. لا مكان حتى على ما بقي من الأرصفة. فقط فوق الرمال، في العراء، حتى من دون جدار قد يسند الخيمة في هذه الأجواء العاصفة. هناك نصب شعيب، صديقي المصوّر الغزاوي، خيمته.
أفكر في شعيب منذ بداية الطوفان. تماماً كما أفكر في بقية الأصدقاء الذين تعرّفت إليهم هناك ذات زيارة نادرة لغزّة عام ٢٠١٢، أتاحتها التغيّرات في مصر بُعيد تنحية مبارك.
في البداية، بداية الحرب، كان بخير نسبياً. بخير يعني أنّه ينزح من مكانٍ إلى آخر دون أن يُصاب، لكن وضعه بالمقارنة بالاحتمالات لا يزال جيداً. حسناً: ماذا عن نسرين؟ سألته ذات اتصال، فقال إنّها في لندن. وريهام؟ في رومانيا. أمّا أماني، فهي ما زالت في القطاع، لكنه لا يعرف عنها شيئاً. أتفقد صفحتها على "فيسبوك" لأنّه لا وقت محدّد للأنترنت. المنشور الأخير بتاريخ قديم.
تغريد عطالله، لا أعرف عنها شيئاً. شعيب غير قادر على أن يعرف هو الآخر: "والله يا ضحى ما حدا قادر يعرف شي عن حدا. أبصر وين صارت أراضيها"، يقول. أما شيرين، فقد كلمتني من القاهرة لكونها استطاعت النفاذ إلى مصر.
لكن ذلك كان منذ شهر.
ومنذ أيام، ومنذ أن أعلنت الأرصاد الجوية قدوم العاصفة حيّان، أقف أمام نافذتي التي تبدو منها تلك الشجرة الضخمة التي تؤوي كلّ عصافير الحيّ الذي أسكنه في بيروت، وأفكر في شعيب.
تحاول الخيمة مطاوعة الرياح، هي الأخرى تريد أن تطير بعيدًا عن غزّة، تريد أن تخون، كالجميع، من هم مختبئون داخلها
أنظر إلى أغصانها تتخافق في مهبّ الرياح العاتية والمطر الذي تجعل منه الرياح سهاماً مؤلمة لمن تصيبه. أنظر إلى أرض الشارع الذي تجري فيه سيول طوفانية وينقبض قلبي. ترى ما حاله الآن؟
أفكر فيه، وأتذكر تلك الصورة التي أرسلها لي حين سألته: أين يقيم الآن؟ لم تأتني إجابته إلا بعد أيام. فأنت إذ تريد تفقّد أحدهم في غزّة، تسأل برسالة عبر واتساب أو الماسنجر. ترمي رسالتك في الهواء الافتراضي كرسالة في قنينة في بحر علّها تصل، إن اتصلت غزّة بالعالم واشتغل الأنترنت. أجابني بتلك الصورة: خيمة في العراء فوق أرض رملية تشبه الشاطئ.
أتخيّل الخيمة، وأنا أنظر من شباكي إلى الأشجار تنحني لشدّة الرياح، تتخافق جدرانها في مهبّ العاصفة الرهيبة المستمرة منذ أربعة أيام.
داخلها، يجلس الصديق الغزاوي وزوجته وابنتاه الصغيرتان، كلٌ أسفل أحد جدرانها في محاولة لتثبيتها بثقل أجسادهم أمام الرياح التي تجاوزت سرعتها ثمانين كيلومتراً في الساعة، كما تقول مصلحة الأرصاد الجوية. يجلسون عليها ملتفين بأغطية تصدّق بها عليهم نازحون آخرون تمكنوا من إيجاد سقف يؤويهم خلال العاصفة الثلجية. هو التضامن بالحدّ الأدنى.
تحاول الخيمة مطاوعة الرياح، هي الأخرى تريد أن تطير بعيدًا عن غزّة، تريد أن تخون، كالجميع، من هم مختبئون داخلها. الرمال التي نُصبت عليها الخيمة تتحوّل بسبب الأمطار الغزيرة إلى حوض من الوحل كادت تغوص فيه أقدام الأسرة الصغيرة لولا سجادة البلاستيك التي بدأت تطفو حرفياً فوق الرمل المبتل لدرجة السيولة.
البنتان بعمريهما الغضّين، ضحكتا كثيرًا في البداية. لكن عندما أُشبعت الأرض بمياه المطر المثلجة وتسلّل بعضها إلى قدميهما بدأتا بالشكوى: "يمّا برد". تقول الصغرى، وهي تحاول الفرار من الرطوبة اللاذعة للمطر برفع قدميها عن الأرض. لكن ما إن رفعتهما وتخلت عن تثبيت الخيمة، حتى تمكنت العاصفة من رفع جدار البلاستيك الرقيق لتتدفق من الفجوة مياه الشتاء المثلجة التي تلذع من تصيبه بالألم كما لو كان يحترق.
إلى أين يستطيعون الهرب؟ لا مكان.
الخيمة هشّة وبالكاد تؤوي. حولها فراغات كثيرة تلعب فيها الأنواء. خيمة تشبه تلك الخيم التي ننصبها للمتعة عند شاطئ رملي. الخيم غير متقاربة، هنا تفهم تماماً ماذا يعني أن تكون في العراء.
الخيمة هشّة وبالكاد تؤوي. حولها فراغات كثيرة تلعب فيها الأنواء. الخيم غير متقاربة، هنا تفهم تماما ماذا يعني أن تكون في العراء
"البيت راح يا ضحى، والمكتب راح، والسيارة راحت، وأواعي البنات. كل اشي راح، خسارة يا غزة، خسارة"، يقول شعيب في رسالته بصوت يجمع بين نبرة الغضب وغصّة البكاء الممنوع.
يحاول الصديق منذ أسابيع أن يخرج بعائلته من القطاع المنكوب. لا حلّ أمامه إلا المافيات التي تشترك في استغلال النازحين المنكوبين على ضفتي معبر رفح. تكتب صحيفة لوموند الفرنسية، بالتعاون مع الموقع الاستقصائي "صحيح مصر" ومنظمة أخرى عن مافيا تستغل حاجة المحاصرين بالموت عبر فرض مبالغ خيالية لتسهيل خروجهم من غزّة. تغضب مصر من التحقيق المنشور، فتصدر بياناً تنفي فيه ما قالته الصحيفة. لكن صديقي يرسل لي بعض الوثائق التي تثبت ما يقال: صورة عن إقرار المسافر بإخلاء مسؤولية الشركة في حال حصول ما هو غير متوقّع. تشبه الوثيقة شبيهتها التي يوقّعها المهاجرون غير الشرعيين عبر زوارق الموت.
نحاول جمع ما تيسّر من جيوبنا لإرسالها إلى الصديق كي يستطيع النجاة بعائلته. من أين نحصل على خمسة عشر ألف دولار والمصارف تحتجز ودائعنا؟
غزّة اليوم وحدها، لا شك، في العراء. عراء المأوى، عراء الصحبة، عراء الدولة، عراء العدالة، عراء الإنسانية. عراء القانون الدولي والمحلي وما بينهما من أنواع. عراء كالعدم، مطلق، في عاصفة الإبادة الإسرائيلية.