من قتل المشير أحمد بدوي (2/3)
يقول علوي حافظ في شهادته الخطيرة إن وزير الدفاع المشير أحمد بدوي حين التقى به قبل حادث مصرعه بفترة، سأله بعشم الأصدقاء وثقتهم في بعضهم: "ما رأيك في أنور السادات؟"، فقال له علوي حافظ بصراحة: "السادات لا يرى إلا نفسه، حتى نصر أكتوبر لا يراه إلا من خلال نفسه فهو بطل الحرب والسلام وهو الرئيس المؤمن، وأتوقع أن يقوم بتصفية قادة أكتوبر ليبقى وحده في الصورة"، فرد أحمد بدوي بإخلاص البطل العسكري: "السادات رجل طيب وما أفتكرش إنه يعمل كده"، لكنه في الوقت نفسه لم يبرر لعلوي حافظ لماذا سأله ذلك السؤال الحرج والحساس، لكنه بعد أسابيع وحين التقى من جديد بعلوي حافظ، فوجئ علوي بأن المشير أحمد بدوي يقول له وهو في منتهى الضيق والإحباط: "تصور يا علوي إنك كان عندك حق لما قلت إن السادات حيصفّينى لأن السادات بدأ فعلا بتصفيتي".
أما أسباب هذه التصفية التي كان يخشاها أحمد بدوي، وربما لم يكن أن يتوقع أن تكون تصفية جسدية، بل مجرد إبعاد له عن منصبه، فيلخصها أحمد بدوي لعلوي حافظ في الأسباب التالية طبقاً لما ينقله محمود فوزي عن علوي بالنص: "1ـ طريقة شراء الأسلحة للجيش المصري كانت تتم عن طريق عملاء وتجار شنطة وسماسرة، وكان السادات يحصل على حقه في هذه الصفقات وقد أراد أن يشركني فيها، ولكني رفضت ذلك وأوجدت نظاماً جديداً لتسليح الجيش، وطبعاً السادات لم يرض عن هذه العملية وقال لي: لأ لن يحدث ذلك. 2ـ جيهان السادات اقترحت تغيير زي القوات المسلحة من اللون الكاكي إلى اللون الزيتي لكي تعقد صفقتين: صفقة تشتري فيها لوطّ الملابس العسكرية كلها للجيش ثم تبيعها لدولة إفريقية. ثم تقوم بتوريد الملابس الجديدة للجيش من خلال جمعية من الجمعيات التابعة لها. 3ـ السادات طلب مني إحالة مجموعة من الضباط إلى المعاش "معظهم كانوا ضمن المتوفين في الحادث" ووجدت بعضهم من أكفأ العناصر في الجيش فقلت: لأ دول ضباط ممتازين، فرد السادات قائلاً: اللي أقولك عليه لابد أن ينفذ. 4ـ مشروع الاستشعار الأميركي في الصحراء المصرية والذي رفضه أحمد بدوي واعتبره طريقة للتجسس لحساب إسرائيل".
يكشف علوي حافظ أن أحمد بدوي قدم له ملفاً كًتب عليه بالحبر الأحمر عبارة (سري للغاية)، ويقول إن الملف كان عن صفقات السلاح المريبة في القوات المسلحة، وكانت أخبار صفقات السلاح التي تحوم حول السادات قد بدأت في الانتشار داخل الجيش، ومن أشهر هذه الوقائع صفقة استيراد الطائرات الإنكليزية والتي تقدم أحد النواب المعارضين بمجلس العموم البريطاني بسؤال إلى الوزير الإنكليزي حول أسباب عدم إتمامها، فذكر الوزير أن السبب في ذلك هو طلب السمسار المصري (وهو من كبار الشخصيات في مصر) عمولة ضخمة وهو ما أدى إلى إلغاء الصفقة وتحويلها إلى طائرات (الميراج) الفرنسية حيث قبل الفرنسيون دفع ثمن السمسرة المطلوبة.
القائد الثاني للطائرة محمد عبد الناصر صدمته سيارة أثناء عبوره للشارع، وقائد الطائرة سمير مغيث وهو عائد ذات يوم إلى منزله بعد عودته من مطار القاهرة لاستقبال شقيقه فوجئ بباب شقته مغلقاً من الداخل
يؤكد علوي حافظ في حديثه مع محمود فوزي أن الحديث الذي دار بينه وبين أحمد بدوي كان مسجلاً، لكننا لا نعرف لماذا كان مسجلاً؟ وهل طلب أحمد بدوي ذلك تأميناً لنفسه من غدر كان يتوقعه، وأين ذهب شريط التسجيل هذا الآن؟ وهو سؤال مهم نتمنى أن يجيب عنه ورثة علوي حافظ، خصوصاً أن محمود فوزي لا زال حياً يرزق، وهو يؤكد أن علوي حافظ قال له إن ذلك الحديث وما دار فيه من أسئلة كان وراء وفاة المشير بدوي وأنه ظل يحمل عقدة موت أحمد بدوي حتى وقت إجراء حواره مع محمود فوزي، قبل أن يموت وهو يحمل تلك العقدة معه، ويضيف بما قاله المزيد من الألغاز إلى حادث مقتل أو اغتيال المشير أحمد بدوي.
تعالوا نرجع قليلاً إلى الوراء لنستعيد سريعاً محطات العلاقة بين المشير أحمد بدوي والرئيس السادات، ولنبدأ بالتحديد منذ مايو 1980 الذي شهد تعيين السادات لأحمد بدوي في منصب وزير الدفاع، ليبدأ بعدها مسلسل الخلافات بين الرجلين بسبب رغبة السادات في توجيه ضربة عسكرية ضد ليبيا بزعم أن القذافي يجهز لضرب مصر، وهو ما استبعده أحمد بدوي الذى عبر عن رأيه بوجود محاولة أميركية لإشعال نيران الخلاف بين مصر وليبيا، ورد عليه السادات قائلاً: "كيسنجر يعرف أكتر منك يا بدوي وعليك أن تنفذ الأوامر"، وبعد تصاعد الخلافات أمر السادات أحمد بدوي بأن يذهب بنفسه للقيام بطلعة استكشافية على الحدود الليبية وأن يقدم تقريراً عن الأحداث على الطبيعة خلال يومين على الأكثر، وكان ذلك قبل وقوع حادث الطائرة بـ 3 أيام، ولم يكن أحمد بدوي رغم توجسه خيفة من السادات يستطيع رفض التكليف، على الأقل لكى يثبت حسن نيته.
وبالفعل، سافر أحمد بدوي إلى مرسى مطروح ثم اتجه إلى قيادة قطاع سيوة قادماً من سيدي براني على متن الطائرة الروسية "سي 8- هيل" بصحبة اللواء على فايق قائد المنطقة العسكرية المركزية، واللواء أحمد فؤاد علي قائد المنطقة العسكرية الغربية، ورئيس أركانه اللواء محمد عطية منصور، ومدير الإدارة الهندسية اللواء محمد حشمت، ومدير الإشارة اللواء محمد أحمد المغربي، ورئيس هيئة الإمداد والتموين اللواء فوزي محمود دسوقي، ورئيس هيئة التدريب اللواء محمد حسن فهمي، ومدير إدارة الأشغال العسكرية اللواء صلاح قاسم وسكرتير أحمد بدوي، بالإضافة إلى العمداء محمد السعدي عمار ومحمد أحمد وهبي ومحمد مازن مشرف والعقيد ماجد محمد مندور وهو بالمناسبة ابن الناقد الكبير الدكتور محمد مندور، وربما كان ركوب هؤلاء جميعاً وحشرهم في طائرة واحدة في وقت يفترض أنه وقت أزمة هو أولى النقاط المثيرة للاتهام في الحادث.
النقطة الثانية التي تثير الاتهامات والشكوك في حادث الطائرة هي نوعية الطائرة نفسها، فقد كان من المعتاد وقتها أن يقوم القادة في جولاتهم الميدانية بركوب إحدى الطائرات المخصصة لاستخدام الكوماندوز وهي من الطائرات المنتشرة في الجيش المصري، لكن اختيار طائرة معروف عنها أنها لا ترتفع عمودياً، بل لابد لها من أن تطير موازية للأرض قبل الصعود ولها باب واحد فقط كان مثيراً للشكوك. أيضا كان من المثير للشكوك قيام طاقم قيادة الطائرة بإغلاق الباب الفاصل بين الكابينة والصالون- وهو عادة لا يتم إغلاقه إلا أنهم قاموا بإغلاقه قبل الإقلاع.
كل هذا يثير الشكوك التي تتحول إلى اتهامات صريحة، عندما نقرأ ما قاله حسن بدوي شقيق المشير أحمد بدوي لمحمود فوزي حيث اتهم طاقم الطائرة بوضع قنبلة دخان في الجزء الخلفي من الطائرة وهو ما أدى إلى وفاة القادة مختنقين وهروب طاقم الطائرة وسكرتير الوزير قبل اشتعال الطائرة. ولذلك يتهم حسن بدوي أنور السادات شخصياً بالضلوع في تدبير الحادث، لأن أحمد بدوي طبقاً لنص كلامه كان دائماً يقول "لا" للسادات وهو ما كان يغيظ السادات، كما كان يزعجه وقوف المشير أحمد بدوي أمام القيام بعملية عسكرية ضد ليبيا، ورفضه لمشروع الاستشعار الأميركي في الصحراء المصرية، وهو ما سبق أن أشار إليه علوي حافظ في شهادته الخطيرة.
كل هذا كوم، وما حدث للناجين من الحادث بشكل يزيد من كوم الشكوك والتساؤلات، فالقائد الثاني للطائرة محمد عبد الناصر صدمته سيارة أثناء عبوره للشارع، وقائد الطائرة سمير مغيث وهو عائد ذات يوم إلى منزله بعد عودته من مطار القاهرة لاستقبال شقيقه فوجئ بباب شقته مغلقاً من الداخل، وكما يروى لنا اللواء كمال حافظ أحد الذين تولوا التحقيق في الحادث، فقد ابتعد قائد الطائرة بزوجته عن الشقة ولف من سلم الخدم ليصعد إلى شقته وبمجرد فتحه للباب تم إطلاق الرصاص عليه في مقتل من مجهول لم يجد أحد له أثراً في مكان الحادث.
يقول كمال حافظ: "قعدنا نشتغل على الحادث وتوصلنا إلى أن المجنى عليه كان قائداً لطيارة أحمد بدوي التي انفجرت في الواحات، وبدأنا نربط بين الحدثين فقالوا لنا في الوزارة ما فيش داعى لتكبير الموضوع وتم إيقاف التحريات، وسبت القضية، وفي يوم تم القبض على أحد المشتبه فيهم ومن غير ما حد يكلمه اعترف للعقيد محمد عباس في مباحث القاهرة أنه كان يقوم بسرقة شقة الطيار بتاع المعادي وإنه هو الذي ارتكب جريمة القتل، برغم إننا لما رحنا الشقة ما كانش فيه علامات رغبة في السرقة إطلاقا، المهم قالوا لنا اسكتوا، وبعد كده طلعت من الشرطة وما أعرفش قضية الواد اللي راح اعترف انتهت على إيه".
...
نختم غداً بإذن الله.