من كناشة النوادر (1 من 2)
سألني قارئ كريم هل حدث خطأ مطبعي في مقال سابق لك ذكرت فيه أن للمحقق عبد السلام هارون كتاباً اسمه (كناشة النوادر)، هل الاسم الصحيح هو (كناسة النوادر) أو (كنافة النوادر)؟
الإجابة لا يا عزيزي الكريم، الاسم صحيح، كُنّاشة النوادر، الكاف عليها ضمّة والنون بالتشديد، والكُنّاشات كما ينقل الأستاذ عبد السلام هارون في مقدمة كتابه هي الأصول التي تتشعب منها الفروع، وكناشة الأوراق تعني الدفتر الذي يتم فيه تقييد الفوائد والشوارد، وهو لفظ يستعمله إخواننا المغاربة، ولذلك اختار الأستاذ هارون هذا الاسم لكتابه الذي جمع فيه على مدى نصف قرن من اشتغاله بتحقيق التراث أكثر من ثلاثة آلاف مذكرة أو قصاصة لرؤوس مسائل لاحظها في كتب التراث ووعد أن يخرجها مفصلة للنشر إذا مد الله له في الأجل.
مع الأسف، مات هذا الرجل السكندري العظيم في عام 1988 دون أن ينال من بلده تكريما كالذي لقيه من دول عربية أخرى عرفت قيمته وقدرته حق قدره، بينما لم تمنحه مصر الجائزة التقديرية إلا قبل رحيله بعام. كان ذلك التجاهل للمثقفين الشغيلة طبيعياً في عهد حسني مبارك الذي اعتنى أكثر بالمثقفين القابلين للدخول في الحظيرة، وتجاهل كثيرا من المثقفين الحقيقيين الذين لعبوا دورا حقيقيا في خدمة الفكر والثقافة وليس في خدمة السلطة، دون أن تكون لأي منهم شلة وربّاطية تقوم بتضخيم إنتاجه الهزيل المتهافت، للأسف في ظل هذه الحقبة السوداء تم التعامل مع محققي التراث وباحثيه على أنهم مثقفون من الدرجة الرابعة لا يليق أن يتم تكريمهم في عصر التنوير، لكن الكلام في ذلك شرحه يطول ولعله يفسد طيب الحديث عن المرحوم عبد السلام هارون وكتابه الرائع الذي لم أجد للأسف سوى جزئه الأول الذي صدر عن مكتبة الخانجي، هذه المكتبة العظيمة التي تستحق كل تقدير على دورها في خدمة الثقافة العربية.
في كتابه يلفت الأستاذ هارون النظر إلى أمور معاصرة نعيشها ولا نعرف أنها كانت موجودة لدى أسلافنا، وقد وجدت من بين ما ذكره أشياء لطيفة أحب أن أشاركك فيها من باب (الإمتاع والمؤانسة). خذ عندك مثلاً ما يرويه عن قصة أول جراحة تجميل في التاريخ العربي، حيث جاء في ترجمة الصحابي الجليل المقداد بن الأسود أنه كان عظيم البطن، وكان له غلام رومي عرض عليه أن يشق له بطنه لكي يخرج له شيئاً من شحمه فيصير رشيقاً، وافق المقداد فشق غلامه بطنه ثم خاطه، فمات المقداد وهرب غلامه، وكان هذا أول تفكير عربي في جراحات التجميل والسمنة، لكن المسلمين خسروا بسببها مقاتلاً مغواراً كالمقداد.
خذ عندك أيضاً، أعياد الميلاد التي يحرم بعض المتشددين الآن الاحتفال بها لأنها بدعة بينما يثبت المُبَرد في كتابه الكامل أن الاحتفال بها كان معروفاً لدى أسلافنا، لكنهم كانوا يحتفلون بها بطريقة خاصة جداً، يقول: كان سعيد بن سلم إذا استقبل السنة التي يستقبل فيها عدد سِنيه أعتق نسمة، وتصدق بعشرة آلاف درهم، فقيل لمديني: إن سعيد بن سلم يشري نفسه من ربه بعشرة آلاف درهم، فقال المديني: إذن لا يبيعه، كما يروي أن بعض المسلمين كان يشترك مع المسيحيين في الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح، حيث يورد هارون عن كتاب التحف والهدايا للخالديين أبيات شعر كتبها الحسين بن الضحاك إلى أحمد بن يوسف وزير الخليفة المأمون ليلة عيد الميلاد يستهديه شمعاً، جاء فيها "وليلة ميلاد عيسى المسيح.. قد طالبتني بميثاقها.. فهذي قدوري على نارها.. وفاكهتي ملء أطباقها".
في موضع آخر يروي أن جنازة الإمام أحمد بن حنبل الذي يحسبه البعض الآن على التشدد، عندما أقيمت في عام 241 أعلنت طقوس الحداد والمآتم أربعة أصناف من الناس هم المسلمون واليهود والنصارى والمجوس، وحضرها من الرجال ثمانمائة ألف ومن النساء ستين ألف امرأة كما يقول الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وهو ما جعل الأستاذ هارون يصف الجنازة بأنها أضخم مسيرة للنساء في التاريخ الإسلامي.
يروي الأستاذ هارون أن ظاهرة محو الأمية كانت معروفة لدى العرب في العهد الأموي حيث كانوا يجبرون من أفلت من قيد التعليم صغيرا بأن يعود إلى الكتاب كبيرا، لكن ذلك كان يسبب مآسي أحيانا منها ما حدث لخالد حفيد سيدنا عثمان بن عفان الذي أمر يزيد بن عبد الملك أن يُحمل إلى الكتاب حتى يتعلم القرآن مع الصبيان فمات كمدا. كما يروي أن ظاهرة الطابور في خدمة الزبائن عرفت كما يقول الجاحظ في مدينة المربد، حيث أدخل حجام اسمه فرج نظام الطابور دون أن يفرق بين من يعطيه الكثير أو يعطيه القليل. أما الأصل الأول للسينما المعاصرة أو خيال الظل فقد عرفه العرب قبل ثمانية قرون، ويشهد على ذلك بيتان جميلان من الشعر لابن الجوزي قال فيهما:
"رأينا خيال الظل أعظم عبرة
لمن كان في أوج الحقيقة راقي
شخوص وأشكال تمر وتنقضي
وتفنى جميعا والمحرك باقي".
هل تعلم أيضاً أن التحذيرات التي توضع على علب السجائر وتربطه بالضعف الجنسي وتشويه شكل الأسنان كان لها أصل تاريخي في مصر عمره ألف سنة، حيث يقول محمد بن عبد المعطي الإسحاقي المتوفي سنة 1063 في كتابه (أخبار الأول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول) وهو يتحدث عن علي باشا الوالي التركي الذي ولي مصر سنة 1010 فيقول، "وفي زمنه ظهر الدخان المضر بالأبدان، اليابس الطباع المبطل لحركة الجماع، المُسَوِّد للأسنان، المُهَرِّب ملائكة الرحمن، بل ذكر أكثر من أكثر منه أن عاقبته وخيمة ومداومة شربه ذميمة، يورث النتن في الفم والمعدة، ويظلم البصر ويُطلع بخاره على الأفئدة"، فهل نرى هذه العبارات على علب السجائر قريبا، لعلها تنجح فيما فشلت في فعله الصور التي تحولت إلى أضحوكة غير مجدية.
يواصل عبد السلام هارون في أكثر من موضع الإشارة إلى تفاصيل في الحياة المعاصرة لا يعرف الناس أنها كانت جزءاً من حياة أجدادهم. فهو يرى مثلا أن العرب سبقوا إلى اكتشاف مرض البلهارسيا الذي اكتشفه تيودور بلهارس سنة 1851، حيث كانوا يسمونه بحيض الرجال، جاء في خزانة الأدب عن شخص اسمه أبو مكعت أنه كان يحيض، وقد حدد العرب أن هذا المرض تنتقل عدواه بالماء. جاء في كتاب معجم ما استعجم للبكري وصف لغدير معين أن ماءه عذب لكنه يُبيل الدم.
يقول هارون إنه عثر في رسائل الجاحظ على نص يؤكد أن العرب عرفوا نظام الإحصاء المدني، حين قرر آل أبي طالب أن يحصوا عددهم فوجدوا أنه يقترب من الألفين وثلاثمائة، وأن عدد نسائهم لا يزيد على رجالهم إلا دون العشر، والجاحظ بمعايير عصره اعتبر أن قدرة الطالبيين على إنجاب الذكور فضيلة خصهم الله بها دون غيرهم.
يشير عبد السلام هارون أيضاً إلى أن المايوه كان معروفا لدينا قبل مئات السنين ولم يكن اختراعا غربيا خالصا، فهو ينقل عن ابن تغرى بردي صاحب النجوم الزاهرة أن السلطان المظفر بن الناصر قلاوون كان إذا لعب مع الأوباش يتعرى ويلبس "تُبّان" جلد ويصارع معهم ويلعب بالرمح والكرة، والتبان "سروال صغير بمقدار شبر يستر العورة المغلظة يكون للملاحين".
لاحظ هنا أن السلطان المظفر كان يستخدم الرياضة استخداماً سياسياً للتقرب من شعبه، لدرجة أنه كان يلبس المايوه وهو يختلط بمن يوصفون بالأوباش، وهي بالمناسبة كلمة تطلق على الضروب المتفرقين من الناس، ولم يكن لها قديما المعنى السلبي الذي نستخدمه الآن. أما نظام اللاسلكي فيرى هارون أن أهل مكة طبقوه قديما عندما علموا بخروج الرسول (ص) إليهم لفتحها، فوضعوا عشرة عيون على الجبال يوحي بعضهم إلى بعض بالصوت: فعل محمد كذا وكذا، فيرد من بعده قوله حتى ينتهي الخبر إلى قريش.
ينقل هارون عن الجاحظ تجربة في جراحة العظام طبقها أهل زمانه حيث كانوا إذا نقص من الإنسان عظم يقومون بلحم عظام الخنزير بعظامه، ولم يعتبر الفقهاء أن نجاسة الخنزير تمنع استعمال أعضائه لضرورة العلاج، بل وأجاز بعضهم استخدام شعر الخنزير في خرز القرب والأسقية، وهو ما ينافي تشجيع المتطرفين على التخلص من الخنازير في مصر حين انتشر وباء أنفلونزا الخنازير ظناً منهم أن ذلك يقربنا إلى الله، مع أن الخنازير لو لم يكن لها فائدة لما خلقها الله. وفي حين يظن البعض أن المسيحيين يبيحون أكل لحم الخنزير يؤكد هارون على أن الخنزير نجس العين في جميع الأديان، مشيرا إلى مقاطع تؤكد ذلك في سفر اللاويين والتثنية وإشعيا وإنجيل متى ومرقس ولوقا.
يضيف عبد السلام هارون أن القول بنجاسة الخنزير تمتد جذوره إلى عقيدة قدماء المصريين طبقا لما يؤكده أبو التاريخ هيرودوت الذي قال في كتابه عن مصر، إن المصريين يعدّون الخنزير نجسا، فإذا مس أحدهم خنزيرا ولو مارا به يبادر حالا إلى النهر ويغتسل، ولا يسمح لرعاة الخنازير أن يدخلوا الهياكل ولا أحد يزوجهم بنته، ولا يتزوج منهم، بل يتزوجون بعضهم من بعض، ولا يؤذن لهم أن يذبحوا الخنازير إلا في يوم مخصوص في السنة يكون القمر فيه بدرا وعندئذ يأكلون من لحمه، ويتساءل هيرودوت عن سر ذلك قائلا إن المصريين يحتجون لذلك بحجة لا يناسب أن أوردها وإن كنت لا أجهلها.
هنا يقول هارون محيرا قارئه أنه يعرف ما يقصده هيرودوت ولكنه لن ينقله في الكتاب لأن ذلك "غير مناسب"، مؤكدا على أن السبب الحقيقي مذكور في حاشية المترجم على كتاب هيرودوت، وقد رجعت إلى الترجمة التي أنجزها الكاتب الدكتور صقر خفاجة وحققها الدكتور أحمد بدوي والتي أعاد المركز القومي للترجمة مشكورا طبعها، فلم أجد تصريحا بما ألمح إليه هيرودوت، ولأن الفضول يقتلني، أرجو ممن يمتلك ترجمة حبيب بسترس التي اعتمد عليها هارون أن يرسل إليّ بما خجل هيرودوت من ذكره عن أجدادنا وعلاقتهم بلحم الخنزير.
...
نكمل غداً بإذن الله.