من موقع الفكر ومكانته تعرف مقام البلد
عزيز أشيبان
غني عن البيان القول إنّ الأمم تتقدّم عندما يغدو العلم ثقافةً، ويسود الإبداع والخلق والتفكير، وتتنوّع الأفكار وتتراكم وتتدافع، فيغتني النقاش ويحترم الحوار وتتعدّد الحلول والبدائل والتصورات. كما يحدث الإقلاع التنموي في أي بلد، عندما يتم الخوض في تبنّي مشروع تجربة تنموية، يوّقر الفكر ويقدّس العلم ويستثمر في الذخائر البشرية، مصدر الغنى والتقدّم.
عملياً، لو أقدمنا على إجراء مرور سريع على وضع الأستاذ في البلد وصدى المفكر وموقع الكاتب داخل المجتمع ومراتب الجامعات المحلية في تصنيف الجامعات العالمية، نقارب نسبياً تجليات حقيقة البلد ونوعية مقاربة الحكم القائم وموقعه بين بلدان العالم في الحاضر والمستقبل. لا مناص من معاينة مقام الفكر في الدول المتقدمة ووضعيته في الدول المتخلفة للوقوف على التجليات والفجوات والحقائق وأخذ العبر وإحياء العزيمة والهمم.
عندما نحطً الرحال في الدول المتقدمة، نجد أنّ الفكر يتموقع في قلب صناعة القرار من خلال مشاركة مراكز الدراسات الفاعل السياسي في مسار بناء القرارات من خلال ما توّفره من تحاليل وتأويلات وتقترحه من رؤى مستقبلية.
حقيقةً، يحظى الفكر بالأولوية وتُقدّس رمزيته ومراجعه ويُحترم أهل الحكمة والعلم وتُخصّص للبحث العلمي ميزانيات ضخمة من أجل الارتقاء والاستمرار في المنافسة مع الأقوياء. يرقى الفكر في بلدان ما بعد الحداثة إلى مسألة حياة أو موت، حضور أو غياب، كرامة أو ذل، إذ يستوطن تفاصيل الحياة وتجده مستقراً في موطنه الطبيعي الحيوي في جميع المجالات باعتباره النواة الصلبة للممارسة السياسية ومنظومة الأمن القومي والمبادرة الاقتصادية ومقاربات التدبير المتبعة والفصل في التخصّصات والتداخلات وتنازع الاختصاص والخيارات الدبلوماسية وبناء الاتفاقيات والتحالفات ومجمل الأعمال الفنية والإبداعات العمرانية.
عندما يسود الفكر تعلو سلطة العقل والحكمة وتسود العقلانية والتبصّر، وعندما يخفت صوته تطفو سلطة النزوات والغرائز الحيوانية والقرارات المزاجية
على النقيض من ذلك، في الدول المتخلفة تسطو السياسة على الثقافة ويحظى الفكر بالتهميش والتجميد والتجفيف والاجتثاث والوأد ربما لتجنّب قيامه أو توّهجه باعتباره مصدر إزعاج وارتياب ومشاكسة. لا مناص من الاعتراف بوجود علاقة مضطربة بين الثقافة والسياسة، حيث تُفتقد الثقة والود ويغيب التفاعل البنّاء ولا يستثمر أحدهما الآخر في الاغتناء، إذ يظلّ الحذر والتوّجس قائماً في قلب العلاقة بينهما. قد يزداد الوضع قتامة عندما يصير الفكر، مع تسيّد الجهل، موضوع سخرية وتندّر واستخفاف أو ترفاً مستحباً بعد إشباع الغرائز البدائية والطموحات المادية. من المؤكد أنّ الأمر منطقي للغاية مادام البلد يعيش في ملكوت الجهل تحت وطأة نشاط الاضطرابات النفسية والذهنية والمشاكل البنيوية المتفاقمة وفوضى المفاهيم. كيف لا يسود الاحتكار بجميع أنواعه ويُؤسّس لممارسات المصادرة وتُعطّل الطاقات وتُفوّت الفرص وتغيب الحركية وتنعدم التعدّدية والمبادرات الخلاقة ويغدو التنميط نمط عيش وحكامة.
من المؤكد أنه من الفكر تنبعث الخيرات أو المطبات حسب نوعية التعامل معه والانكباب بجدية على إنتاجاته وكيفية انصهارها داخل المجتمع وتأثيرها على الوعي الجماعي. عندما يسود الفكر تعلو سلطة العقل والحكمة وتسود العقلانية والتبصّر. في المقابل عندما يخفت صوته تطفو سلطة النزوات والغرائز الحيوانية والقرارات المزاجية وتتعدّد الأخطاء والكبوات وتتعمّق الأزمات ويستوطن القحط تجليات تفاصيل الحياة.