مونديال قطر... سقوط الرجل الأبيض وإعلامه
"الرجل الأبيض يحتكر كلّ شيء جميل"، هذا تلخيص لنهج وسلوك ومقاربة الدول الغربية وإعلامها تحديداً، الذي شنّ حملة مسعورة على دولة قطر، كبلدٍ عربي من العالم "غير الأبيض"، ينظم البطولة الكروية الأهم في العالم.
ولقد شنّ الإعلام الغربي، وتحديداً البريطاني، حملة ممنهجة، وغير مسبوقة على تنظيم دولة قطر لكأس العالم، ساق فيها مجموعة من الاتهامات المضلّلة التي حاول عبرها تبرير حملته. والحقيقة أنّ الحملة المشار إليها لم تبدأ مع انطلاق الكأس في الدوحة يوم الأحد الماضي، بل سبقتها بعقد ونيف من الزمان، أي منذ أن نجحت قطر في تقديم أفضل عرض لاستضافة الكأس في عام 2010.
نظرة سريعة على الاتهامات، تجدها تتلخص بقضيتين، هما المثلية الجنسية وحقوق العمال، حيث تزعم صحيفة ذا غارديان -على سبيل المثال- أنّ قرابة 6500 عامل لقوا حتفهم في أثناء العمل في الملاعب. الرقم ظهر منذ فبراير/ شباط الماضي في الصحيفة التي حاولت ربطه بوفيات ملاعب ومنشآت كأس العالم، فيما الحقيقة أنه إجمالي الوفيات من العمال المقيمين في قطر منذ اختيارها لاستضافة الكأس، بمعنى أنّ ذلك الرقم مضلّل وغير صحيح، وليس إشارة إلى من مات في أعمال الملاعب، كما توحي تغطيات الصحف ومحاولتها الاستعارة بشكل مشوّش، بل من مات لأسباب متعدّدة، ربما موتاً طبيعياً، أو بحوادث سيارات، أو بأمراض القلب أو غيرها، وليس من ماتوا في أثناء العمل في ملاعب كأس العالم والتحضير له، فهل هذا الربط بريء؟
عقلية المستعمر مازالت تستكثر على الدول التي كان في يوم من الأيام يستعمرها، ذلك التقدم والازدهار والتحرر
وقد قام الباحث، مارك أوين جونز، المتخصّص في مجال المعلومات المضلّلة على وسائل التواصل الاجتماعي بعمل تحليل لهذا الرقم، وقال إنّ "هذا الرقم أُعيد نشره 400 ألف مرّة باللغة الإنكليزية، وارتبط بكلمة قطر حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وأنّ نشره جاء على أنه وفاة في المواقع المرتبطة بكأس العالم"، ما يجعل السؤال مشروعاً: أليست هذه محاولة مقصودة للربط بين قطر وهذا الرقم، رغم عدم دقته، فيما تساءلت منظمات حقوقية عن كمّ التضليل الإعلامي الذي رافق هذا الرقم.
جونز، في سياق تحليله لخبر "ذا غارديان" والحملة التضليلية، لفت إلى أنّ "الأمر يتعلق بالنظرة الاستشراقية، فالاستشراق يتمثل بالاعتقاد بأنّ العالم غير الغربي أو الأوروبي أكثر وحشية وبربرية، فإذا كان القارئ يعتقد أنّ هناك شيئاً من الوحشية في المنطقة، فمن المرجح أن يكون أكثر قبولاً للاعتقاد بأنّ أرقام الغارديان وغيرها صحيحة".
يمكن التدليل كذلك على حملة "ذا غارديان" من الصحيفة نفسها. ففي يوم انطلاق البطولة، نشرت خبراً عن فوز الإكوادور على قطر، وهذا طبيعي، لكنها علقت: "لا يمكن شراء كلّ شيء بالمال"، ما يكشف حملة مسبقة ومجانبة للمهنية والموضوعية، فهذا التعليق فيه كم من مجانبة الأخلاق المهنية، وإقحام للرأي على أنه خبر، وتصفية للحسابات.
عموماً، إذا كنا سنتحدث عن المال ودوره في شراء الرياضة والسياسة والمصالح دون اعتبار للمبادئ، فإنّ الكفة هنا لا تميل لمصلحة الغرب. ففي مسألة جدلية المبادئ والمصالح، يتصدّر الغرب قائمة الانتهازيين الذين يقايضون حقوق الإنسان بالمصالح، فهو من يوقع عقود بيع الأسلحة مع دول تشن حروباً وتسبّب قتل ملايين البشر، لا قطر، كذلك لم تكن قطر، ولا أي دولة عربية، من شنّ حرباً على العراق مدفوعة برغبة في الاستحواذ على نفطه وتحت شعارات كاذبة، تارة "تخليص الشعب العراقي من الدكتاتورية"، وتارة أخرى "نزع أسلحة الدمار الشامل"، بينما كان لعاب أميركا وبريطانيا وحلفائهم يسيل على النفط. نتيجة تلك الحرب كانت تدمير العراق وقتل مليون طفل عراقي.
ولم تكن قطر، ولا الدول العربية من أنشأ كياناً عنصرياً، قام على أنقاض شعب بأكمله في فلسطين، وما زالت تدافع عن احتلاله وجرائمه وخرقه لكلّ القوانين الدولية. ليس العرب كذلك من استعمر الدول الأفريقية، واحتل العالم الثالث وامتصّ خيراتها، واستعبدها ومارس أبشع أنواع الوحشية والبربرية بحق شعوب تلك المستعمرات، لم يكن العرب من سبّبوا قتل قرابة 100 مليون إنسان في الحربين الأولى والثانية في أكثر الحروب وحشية وبربرية.
هجمة الغرب على الدوحة ليست لا أخلاقية ولا مبدئية فحسب، إنما أيضا انتهازية استعلائية
أخيراً، لم يكن العرب، بل الحلفاء من اغتصبوا مليوني امرأة ألمانية وشغّلوا الألمان بالسخرة عقب خسارة ألمانيا الحرب العالمية الثانية. هؤلاء المغتصبون يحاضرون اليوم علينا في مجال حقوق الإنسان؟!
الأمر نفسه يتكرّر في قضية المثليين، حيث يضع الغرب معياره الأخلاقي على أنه المعيار الأخلاقي الأمثل للعالم، والذي ينبغي اتباعه، هذا خطاب إقصائي فيه تأميم للفكر والأخلاق ومصادرة للحريات، هذا إقصاء للمنظومة الثقافية والأخلاقية الأخرى، هذا بشكل أو بآخر تعبير عن عقلية شبيهة بعقلية بوش الابن "من ليس معي فهو ضدي"، وهذا ينطبق على الغرب في مقاربته في كلّ شيء اليوم.
فعلى سبيل المثال في روسيا في مونديال 2018، وبينما كان فلاديمير بوتين قد انتهى للتو من السطو على شبه جزيرة القرم، وفيما هو ذاته معادٍ للمثليين، لم نرَ تلك الهجمة الغربية عليه، فالقوي مستثنىً من معايير الرجل الأبيض التي تطبّق على الضعفاء، ولم تجد "بي بي سي" وقتها سبباً لعدم بثّ افتتاحيات الكأس كما فعلت هذا العام. الحقيقة أنّ عقلية المستعمر ما زالت تستكثر على الدول التي كان في يوم من الأيام يستعمرها، ذلك التقدم والازدهار والتحرر، هذا يقدم أيضاً دليلاً آخر على أنّ هجمة الغرب على الدوحة ليست أخلاقية ولا مبدئية فقط، بل أيضاً انتهازية استعلائية.
لا نكتب هنا دفاعاً عن قطر، بل دفاعاً عن دولة عربية من العالم الذي يسميه الغرب عالماً ثالثاً. نكتب عن حقّ هذا العالم وكلّ دوله وشعوبه في المنافسة والنجاح والإبهار، نكتب ضد العنصرية ومن أجل حقوق الإنسان دون لون ولا تلوين، عن ضرورة الإنصاف والعدالة، نكتب ضد الاستشراق ذي المنطق واللغة العنصرية الاستعلائية وعقلية الرجل الأبيض التي تحكم سلوك الغرب وإعلامه.
انظر إلى تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في وصفه أوروبا بـ"الحديقة"، أما باقي العالم فـ"أدغال"؟ ألا تفوح من هذه التصريحات رائحة عنصرية كريهة؟