نكسة إسرائيل في المونديال
أنفقت تل أبيب ما أنفقت، وعقدت من الاتفاقيات ما صُوّر للعرب أنفسهم أضعاف ما صُوّر للإسرائيليين، حتى توقعنا أنهم سيفتتحون "أرئيل" على دبيّ، و"موديعين عيليت" على الرياض، و"معاليه أدوميم" على القاهرة، وخطّاً جديداً للسكة الحديد، عابراً للحدود، بدل خطّ سكة حديد الحجاز، لكنه هذه المرّة سيبدأ في الخرطوم وينتهي في مستوطنات يافا المحتلة.
لم تكن هذه مبالغةً حين رأينا الأيادي الملوّثة الجديدة تتصافح من الإمارات والمغرب والبحرين والسودان، مع يدي بنيامين نتنياهو، وبين يدي دونالد ترامب... كانت أكذوبةً وليدةً على وشك التحقّق مع الوقت، أو التصديق.
حتى إننا لم نكن نعرف بدرجة كبيرة أنّ الاحتلال طبّع بالفعل مع الحكومات فقط، امتدت ظنوننا حتى الشعوب، وشككنا في أنفسنا، وأبناء جلداتنا، أصحاب اللغة ذاتها التي لا تقبل مفردة "إسرائيل" في قاموسها. وكنّا نعود لنثق بالشعوب من حينٍ إلى آخر، ثم نفقد الثقة تارةً أخرى، وكدنا نعترف بهزيمتنا في هذه الجولة، نعم، لقد طبّعت إسرائيل، ورضخ البعض، وسلّم البعض مضطراً إلى كونها شبه دولة محتلة تعيش في أراضينا، محتلة أجل، لكن قد يعترف البعض بحكم الأمر الواقع بأنها صارت "دولة".
حتى جاء المونديال في قطر، سُمح للإسرائيليين بالسفر إلى هناك للتشجيع بسبب شروط الفيفا، وهذه قواعد لا يمكن أي دولة مضيفة تجاوزها، حيث نفى القطريون أي تواصل مع الإسرائيليين لهذا الغرض. ولهذا السبب، ذهب الإسرائيليون إلى مكان المونديال، وأصبحت "مكان" في كل مكان، والناس يتعثرون بمراسلي "يديعوت أحرنوت" و"الثانية عشرة" العبرية حول الملاعب، فكانت هنا الحقيقة التي وصلت إليهم بأبلغ شكل ممكن، ووصلت إلينا قبل كلّ شيء، لتنفي لنا ما ارتبنا فيه، وتؤكد لنا ما كدنا نتخلّى عنه.
ليست الشعوب العربية بمعزل عن بعضها على وقع الأزمات السياسية، ولا تتبنى وجهات حكامها في التطبيع أو التقارب
يسأل الصحافي الشاب عن جنسيته، يقول له: "لبناني"، ويسأله الشاب، فيقول: "إسرائيلي"! ينصرف ولا يكمل اللقاء. شاب آخر يشكّ في جنسيته، لكنه يعتذر عن عدم إكمال اللقاء فور معرفته بأنّ المراسل إسرائيلي. شبان وشابات آخرون/ات، منهم فتاتان تتوشّحان بالكوفية الفلسطينية، يوبخون مراسلاً إسرائيليّاً ثم يرفرفون بالعلم الفلسطينيّ أمام الكاميرا، وينفون وجود دولة اسمها "إسرائيل". شاب آخر من المنظّمين هذه المرّة، يقود عربةً للخدمة في أحد الملاعب، وبصحبته صحافي إسرائيلي، ينكر هويته وجنسيته، متنكراً في جنسية برتغالية، لأنّ السائق "فلسطينيّ الأصل"، لو عرف أنه إسرائيلي لما أخذه، ولربما كان ردّ الفعل أكبر. وها هو شاب مصريّ، يرى ميكروفون عليه شعار "يديعوت أحرنوت"، فيسأل حامله عن جنسيته، فيخبره بمخارج حروف عبريّة مفضوحة أنه من "الإكوادوغ" (يقصد الإكوادور).
ومشاهد أخرى لا يفسح المجال لذكرها، منها ما التقطته عدسات الكاميرات، ومنها ما لم تلتقطه، لكن المؤكد أنّ علماً ضخماً لفلسطين حملته أيادي المشجعين وفوق رؤوسهم على اختلاف جنسياتهم، يقول إنّ فلسطين حرة، وإنّ أعلاماً بكميات ضخمة وُزّعت، وكوفيّات دارت حول الأعناق، وشارات حملت فوق الأذرع والأعضاء، وهتافات جرت على الألسنة وضجّت بين استدارات الحناجر.
يشكو الصحافيون الإسرائيليون مما وجدوه في الدوحة من هجوم، وسخرية وتهكم، قالت "جيروزاليم بوست" إنّ العرب هم العرب، لم يتغيروا. وتتخوف التقارير الصحافية الإسرائيلية، واستطلاعات الرأي، من ارتفاع "الكراهية" ضد "إسرائيل" على عكس ما كانوا ينتظرون، ولم يكن المونديال فرصة للانسجام، بل للانكشاف، وهزيمة جديدة، شعبية هذه المرة، وقويّة، وليست الشعوب العربية بمعزل عن بعضها على وقع الأزمات السياسية، ولا تتبنى وجهات حكامها في التطبيع أو التقارب.
لم يكن المونديال فرصة للانسجام، وإنما للانكشاف، وهزيمة جديدة لإسرائيل، شعبية هذه المرة
يقول مشجع سعوديّ تعصّب حين رأى صحافيّ الاحتلال يريد أن يجري معه حواراً: "ليس مرحباً بكم هنا في بلادنا، ليس مرحباً بكم في قطر".
أتخيل المليارات التي أُنفقت، الوعود التي قُطعت، والعقود التي أُبرمت، والعلاقات الاقتصادية المتوسعة، والآفاق البينية المفتوحة، والقنوات التي تجمع الرؤوس في الحرام، والتطبيع الذي عُنون باتفاقيات أبراهام، وقادة الاحتلال، وجنود قادة الاحتلال، من أصحاب الغترات العربية، كلهم يشاهدون هذا، يمصمصون شفاههم، يعضّون على أياديهم من الغيظ على ما أنفقوا من ميزانيات، وما ضحَّوا به من وجاهة، ليجدوا كلّ ذلك في النهاية، ميكروفوناً مركولاً، أو صحافيّاً مطروداً، أو مراسلاً يتنكر لمستوطَنه، يحاول أن ينتسب إلى أيّ مكان، عدا المكان الذي يريد من العالم الاعتراف به، وهو نفسه لا يجرؤ على الاعتراف به، وسط خصوم يطردونه اليوم من الدوحة، وعيونهم على يوم طرده من القدس.
صحيح، لم يشارك منتخب لفلسطين في كأس العالم، ولم تصعد "إسرائيل" إلى المونديال، لكنهما كانا حاضرَين بقوة، يمثّل "إسرائيلَ" صحافيون لا يستطيعون إعلان هوياتهم، ويمثل فلسطين مجموعٌ كبير مكوّنٌ من هويات مختلفة وألسنة متنوعة وجنسيات أخرى، لكنهم جميعاً يقدّمون فلسطينيّتهم، على بلدانهم الأساسية، ليحرزوا أهدافاً أخرى للبطولة، لم تكن من البداية في الحسبان.
نكسة جديدة إذاً، وليس ذلك من التهويل، صفعة كتلك التي تعرّض لها مراسل إسرائيلي من مواطن إيراني، على وجوه إسرائيل المختلفة، صفعة على وجوه القوة الناعمة، على خدَّيْ نصير صاحب "ناس ديلي"، وعلى وجوه وزارات الثقافة العربية التي تشرك إسرائيليين معها في مناسباتها، وعلى وجه "أفيخاي أدرعي" و"إسرائيل تتكلم بالعربية"، وعلى وجوه برامج التطبيع المدعومة بالكثير من أجل استدراج طويل المدى لجمهور عربي، يقطع الطريق من "قصره"، ويرفض أي تطبيع على أي مدى.
العربي هو العربي، وفلسطين هي فلسطين، وثمة حقائق راسخة لن تتبدّل، ومن دون إنفاق جنيه واحد
الرسالة التي جاءت من كأس العالم للاحتلال الإسرائيلي كانت مختلفة، ستضطرهم إلى مراجعة برامج التطبيع، إلى النظر في أفكار التسلّل الإعلامي، إلى إلغاء خطط كاملة دُشّنت بمليارات، لأنّ العربي هو العربي، وفلسطين هي فلسطين، وثمة حقائق راسخة لن تتبدّل، ومن دون إنفاق جنيه واحد، فإنك لا تحتاج إلى الكثير لإثبات شيء مثبت بالفعل، بينما تحتاج إلى الكثير جدّاً جدّاً، قبل أن تقتنع باستحالة إثبات شيء لا يراه الناس إلا وهماً، وسراباً، تنكّر في صيغة واقع، لن ترتفع فقّاعته حتى تنفجر، بشكّة إبرة، أو سارية علم.
وليعرف الإسرائيليون أنهم لن يلقوا ما كانوا يتخيلونه من نتائج بعد التطبيع، ولن يجدوا إلا مزيداً من "الكراهية"، وأنّ أيّ جنسية، مهما كانت، يمكنها أن تلقى ترحيباً عند بيئة عربية كريمة بطبعها، وأيّ انتماء يستطيع أن يجد له حاضنةً في وطننا الكبير، ولو من "الإكوادوغ"، إلا أن تكون قادماً عبر مطار "بن غوريون"، من المستوطنات المبنية فوق أنقاض بيوتنا المهدّمة، في أراضينا المحتلة.