هكذا علمني أبي أهم درس في "التربية المالية"!
في طفولتي، كانت مسابقة البلدة لحفظ القرآن ذلك العام تقوم عليها سيدة كويتية (بكل ما أوتينا من صورة نمطية عن الثراء والعطاء)، جوائزها أضعاف المسابقات الأخرى. دخلت المسابقةَ وأنا لا أحمل أملًا في الفوز، لأنني لم أراجع الأجزاء التي حفظتها جيداً، لكن على كلّ حال، المبلغ مغرٍ لطفلٍ في حجمي. وبالفعل، لم يمضِ من الوقت الكثير، حتى أُعلنت نتائج المسابقة، وكنت في المركز الثاني في فئتي، فحصلت على مبلغ وقدره ثلاثمئة جنيه. وحينها لم تكن تشتري دجاجتين مثل الآن، وإنما كانت نصف دخل شهريّ لموظف حكومي، تقريبًا. كانت القيمة ضخمة.
تخيّل كلّ هذا التشوق، والانبهار، ذهبت بهما وبمظروف الجائزة إلى البيت، أزف إلى أمي الخبر. هنأتني، وضاعفت فرحتي، لكن الفرحة أخذها الغراب وطار حين قالت لي اذهب إلى أبيك وأعطه النقود واشكره! لم أفهم، من الذي يجب أن يحصل على النقود؟ ومن الذي يستحق المكافأة؟ أليست هذه هي التربية؟ أو.. أليست تلك أنانية؟ زمجرت، وغضبت، لكنني كنت مكرَهًا (بحكم بري لهما) على أن أنفّذ الكلام. طرقت الباب على أبي، شكرته، هنّأني، وكان ثقيلًا على قلبي أن أعطيه الجائزة هكذا، أن تضيع لحكمةٍ لا أعلمها ويدّعي الكبار معرفتها، فخاصَمني.
طلبت مني أمي أن أصالح أبي، كيف أجرؤ أصلًا على أن أعصي له أمراً؟ وكيف لا أوثره على نفسي بما كسبت؟ وبيني وبين نفسي، كنت أقول: هل سيقف البيت على هذه المئات الثلاث؟ ألستُ أحق بثروة كتلك؟ لكنني، في النهاية، ذهبت مطأطئ الرأس، كمن يُسلب منه انتصار عظيم، أتأسف لأبي، وأترك له المظروف، فحضَنني (وأنا بارد وجاف) وأعطاني منها خمسين جنيهًا. كان درسًا ثقيلَ الدم، فما التربية في أن تنزع من طفل ما يستحقه؟
لكنني كنت أنازع ذلك الصوت في نفسي، أليس ذلك من أقصى درجات البر والحب؟ ها أنذا فعلت. في وقتٍ لاحق، أعطاني أبي الـ250 المتبقية، وقد كنتُ فهمتُ الدرسَ، بأنّ كل فضلٍ مهما كبر حجمه، وكثر فيه اجتهادي، يعود له، وكلّ رزقٍ لي هو بفضل تربيته أولًا، وأنّ مالي ليس كله لي، هو بالفعل لي، لكن حين يثقل المعنى تبهت المادة، وحين تكبر القيمة في عينيك، تزهد في ما بين يديك.
كبرتُ أرى عيون الناس لا جيوبهم، وأعرف قيمة المرء من رصيد كرمه لا من رصيد بنكه
حينها، لو كان للتربية الإيجابية صوت، لكان تصويرَ أبي شريراً، رجلاً له مخالب، يسرق رزق أولاده، وله سلطة "أبوية" لا تعرف الفرق بين الثواب والعقاب، وأنه كان، حتمًا، عليه أن يحترم "خصوصية" ولده، فلا يتعدّى على حقوقه المادية ولو كان صغيرًا، لكن ما فعله أبي لم يكن تعدّيًا، كان أثمنَ ما يزرعه رجلٌ في "خصوصية" ولده، حتى يُنبت له في قلبه ما يعينه على الدنيا حين ينبت شاربه، فلا تدنيه الدنيا من الدنيّة، ولا يكون ماله أول همه، وإنما يكون سعيه هو أول همه، وكرمه هو أعظم خلقه، وإنفاقه هو أكبر شيَمه، فيشعر بالخط الرقيق الفاصل بين الحرص والبخل، وبين الادخار والشح، وبين النزاهة والتبذير، وبين العطاء والمَنّ.
بعد ذلك اليوم بشهور، كنتُ أعمل (وأنا بعدُ طفلاً) في "شادر" لبيع حلويات المولد، يُقام لعشرة أيام أواخر شعبان وأوائل رمضان، ثم ينفضّ الموسم، وقد جنيتُ حينها (يا للعجب) ثلاثمائة جنيه أيضًا، بكدّي وعرقي، واجتهادٍ شديد. حينها كان الدرس قد ترسّخ جيدًا، ذهبت إلى أبي، بمظروف يشبه المظروف الأول، لكن بقلبٍ أكثر نضجًا رغم أنّ المسافة الزمنية لم تكن كبيرة، أعطيته المظروف، وشكرته، وقبّلت يديه، لكنه هذه المرة، على عكس ما انتظرت، لم يأخذ الثلاثمائة جنيه، وإنما كافأني فوقها، حينها أدركتُ أنه لم يكن بحاجة إلى زكاة جيبي، وإنما تزكية نفسي.
بعد ذلك اليوم بعشر سنوات، كنتُ أتقاضى أول راتبٍ من وظيفة ثابتة في حياتي، وكان راتبًا يعجبني، لكنني من اليوم الأول لم أفكر إلا في أن أجعله كله، في أول شهرين، لأبي، لأنني فهمتُ أهم درس في التربية المالية في حياتي، واستوعبته. رفض أبي الأمر، لكنني أصررتُ، لأن عليّ دينًا له سأحاول ما استطعتُ سداده طوال عمري كله، وهو أن نجّاني من "المادّة" بأعجوبة، وأنقذني من أن أكون مثل آخرين أكرههم.
أول طريق الثراء أن تكون عينك في الثرى وقلبك في الثريا
كان أبي حريصاً على أن أعمل طوال الوقت، على أن تكون الإجازة وقتًا للسعي والجهد لا الراحة وحدها، "الراحة في التعب"، كان يعلمني حتى وقت قريب وأنا أشكو له ضيق فراغي وشدّة إجهادي وتعبَ جسمي بين وظائف ثلاث، أنني حين أتخلّى عن واحدة منها بعد وقت قريب، سأشعر بقيمة وقتي أكبر، وحين أعمل في وظيفة واحدة سأشعر كأنني لا أعمل، وحينها سأكون حققتُ المعادلة، في أن تكون "الراحة في التعب"، ويكون "المرض في البطالة".
كنتُ أراه جبلاً يتحرّك، جبلاً، صامداً، لكنه لا يكف عن الجري هنا وهناك، وما زال (حفظه الله) يحب أن يسعى فيُرزق، ويُنفق فيسعى مجددًا، حتى يستحق رزقًا ليس له وحده، وإنما للآخرين حوله، ومن في رعيته، ومن حتى ليسوا في رعيته لكنه يرعاهم بحكم الدين، وعذوبة نفسه، ومنه تعلمتُ هذا كله، في أنّ راحة البال في انشغاله، وغنى الرجل في ما ينفقَ على عياله، وأنّ الثروة لا تُحسب بما بقي معك، وإنما بما ادخرته في قلوب الآخرين واستثمرته في سعاداتهم.
تعلمتُ من الرجل العظيم، ومن أمي التي تدرك كيف تكون كريمة وعفيفة (وهي التي أخذتني من يدي لأول درس في مدرسة أبي المالية)، كيف أنفق، وماذا أنفق، وأين أنفق، ومتى أنفق، وعلى من أنفق، ولمَن أنفق، ولا أستأثر بنتاج عرقي لي، لا أنسى نفسي بالتأكيد، ولكن أنظر حولي أولًا. فكبرتُ أرى عيون الناس لا جيوبهم، وأعرف قيمة المرء من رصيد كرمه لا من رصيد بنكه.
هذا ما علّماني إياه، وهذا ما يغفل عنه كثير من الناس، فيخرج الأطفال بلا مسؤولية حتى يصيروا رجالًا، لا يعرفون إلا الاستدانة، ولا يدّخرون جنيهًا، ولا يتصدقون بدينار، وليس هذا من ضيق يد، وإنما من ضيق أفُق، وبطالة عقل، وتواكل على الله لا حسن التوكل، ونقص تربية أورثهم الفقر (ولو ورثوا معه مليون دولار).
ولا ينفي هذا الطموحَ، وأن تسعى لتعديد دخولك وزيادة ثروتك، كما لا ينقد الغنى، وإنما أريد أن أقول إنّ الغنى غنى الصدور بما ينفع في القبور، وغنى القلوب بما لا يحمل في الجيوب، وإنّ أول طريق الثراء أن تكون عينك في الثرى وقلبك في الثريا.