هل أصبح أخنوش ظاهرة مجتمعية؟
استهلّ عامة المغاربة عطلتهم الصيفية لهذه السنة باحتجاجهم (كالعادة عبر وسائط التواصل الاجتماعي) على ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة؛ وخصوصاً أسعار المحروقات. تمّ التّرويج لهذا الاحتجاج من خلال بعض الهاشتاغات والمنشورات التي تؤّطر لهذه الحملة "الدونكيشوتية"، أملاً في أن تخضع الحكومة لها، وتقوم فعلاً بتخفيض الأسعار. وفي عدّة جوانب من هذه الحملة، كان المستهدف الرئيسي، رئيس حكومة البلد الحالي السيد عزيز أخنوش.
لم ير المغاربة رئيس حكومتهم كشخص لم يف بوعوده الانتخابية فحسب، بل أيضاً، مسؤولاً رئيساً عن عدم انخفاض أسعار المحروقات كونه مديراً ورئيساً لمجموعة أكوا (Akwa Group) الاحتكارية (أفريقيا سابقاً وهي كانت ضمن العلامات والشركات التي شملتها حملة مقاطعة 2018 بالمغرب).. في تشعبها في مختلف قطاعات الطاقة، وخصوصاً سيطرتها على سوق المحروقات، حيث رآها المغاربة في شخص رئيسها، مسؤولة عن رفع أسعار المحروقات رغم انخفاضها في المقابل بالسّوق العالميّة والدّول الأخرى. لهذا أصبح اسم هذا الشخص في بلاغيات العامية المغربية مرادفاً للاستغلال والاحتكار. وتجنباً لإشكالية التعريف، تم اختيار صفة "الخنوشية" كتحوير لاسم "أخنوش" ليقابل معاني هذه الصفات والمرادفات.
غير أنّ أجواء العطلة الصّيفيّة في المغرب، عجّلت باكتشافٍ مفاده أنّ الخنّوشية ظاهرةٌ مجتمعيّةٌ سائدةٌ في البلد كلّه، وليست حصراً على شخصٍ واحدٍ فقط. وأنه وراء احتجاجات المغاربة هذه، هناك تناقض ملموس في الواقع المعاش يستعصي فهمه أو محاولة دراسته. لكن قبل الغوص في حجّة هذا النص، وجب القول إنّ هذه التدوينة ليست دفاعاً عن شخص رئيس الحكومة المغربي وإنما استدراك أو محاولة للتّأمّل في متلازمة التناقض والمواقف المزدوجة (Double Standards) التي تلازم فكر وممارسات المغاربة (وربما العرب إلى حد ما). فهناك انفصام في شخصية ومواقف بعض المغاربة يجب التوّقف عندها؛ فعلى سبيل المثال، نجد مواطناً يشتكي ويلعب دور الضحية، وفي نفس الوقت يمارس هو الآخر "خنوشيته" في جو من السلطة والتسيّب كلّما أتيحت له الفرصة لذلك. وأنا هنا أتكلم عن ظواهر، وليس عن استثناءات، خصوصاً أنّ الخنوشية التي أقصدها ليست عادة موسمية فحسب، بل أصبحت حالة ذهنية أيضاً (State of Mind).
الخنّوشية ظاهرةٌ مجتمعيّةٌ وحالةٌ ذهنيّةٌ سائدةٌ في البلد كلّه، وليست حصراً على شخصٍ واحدٍ فقط
أولاً، وفي عزّ فصل الصيف، صادفنا أرباب مقاهٍ ومطاعم يحتلون مساحات إضافية من الملك العام على الأرصفة والساحات، ثمّ يرفعون ثمن المشروبات والمأكولات، كما أنّ بعضهم في المدن الكبرى تجرّأ على أن يحدّد مدّة الجلوس لكلّ طلب. هؤلاء أنفسهم يشتكون من ارتفاع أسعار المحروقات، والكثيرون منهم لا يعطون الحقوق البسيطة لعمالهم ويتهرّبون من أداء الضرائب، بل ويمارسون استغلالهم هذا ويعتبرون ذلك حقا.
ونجد أشخاصاً يحوزون بكلّ بلطجية ووقاحة على مساحات من الفضاء العام ويحولونها إلى مرافق للسيارات وينصبون أنفسهم حرّاساً لها بالأثمنة التي تناسبهم، بالرّغم من عدم امتلاكِهم ترخيصاً يخوّل لهم ذلك، ويعتبرون ذلك حقاً لأنّ الحكومة، وحسب أقوالهم، لم توّفر لهم فرصاً للشغل.
وهناك باعة متجوّلون يحتلون مساحات من الشارع العام ويهدّدون بحرق أنفسهم إن تم ترحيلهم. يفترشون الأرض ببضاعتهم المهرّبة ويمارسون البيع والشراء بكلّ ما أُوتي لهم من بلطجةٍ ونابية اللّسان، وهم لا يدفعون أيّة ضريبة على سلعهم، ولا يقومون بأيّ مجهودٍ لتطوير مشاريعهم، والاشتغال على أنفسهم في عصرٍ رأسماليٍّ يتميّز بالتّنافسيّة بغية الحصول على أيّ عمل كان.
ثم هناك أشخاص في مدن شاطئية أو ساحلية يؤجرون المنازل للطبقات الوسطى التي تأتي لقضاء عطلتها الصيفية بأضعاف أسعار التأجير، ويبرّرون ذلك بالرّكود الذي عانوا منه خلال فصل الشّتاء، ويعتبرون ممارستهم هذه حقاً. وبعضهم يباشر بالتشكّي والتأسي على الراغب في التأجير والشراء ليرسموا لأنفسهم صورة الضحية، وكأنّ هذا الشخص القادم لقضاء عطلته مسؤول بشكل أو بآخر عن محنتهم خلال باقي الفصول.
وعلى الناصية الأخرى، نجد طبيباً يشتغل في القطاع العام يترك مداومته في المستشفى العمومي ويذهب إلى عيادته حيث يطلب ما يشاء ثمناً لخدماته، وأحياناً تصل به الوقاحة إلى أن يلتقي بمرضاه في المستشفى العام، لكن ينصحهم باستكمال علاجهم عنده في عيادته الخاصة، ولسببٍ من الأسباب يعتبر ممارسته هذه حقاً.
اتخذت الخنوشية، بشكل عام، شكلاً هرمياً، تمارس فيه كل طبقة مجتمعية مغربية حقها من الاستغلال
وهناك سائقو سيارات أجرة يخفون لائحة الأسعار عن الركاب، ويكلفونهم، وخصوصاً الغرباء منهم، أضعاف الثمن المعتاد، ويعتبرون ممارستهم هذه مشروعة، بل حقاً أيضاً.
وبعد انقضاء العطلة الصيفية، نرى مكتبات ومحلات بيع كتب وأدوات مدرسية تستغل مناسبة الدخول المدرسي والجامعي وتقوم بالزيادة في الأسعار للتعويض عن الركود الذي عايشته في فصل الصيف. وجواباً على شكايات البعض، يلومون ارتفاع الأسعار ويضعون المسؤوليّة كاملةً على الحكومة ومخلّفات الحرب في أوكرانيا. لكن ما محلّ أوكرانيا من الإعراب في قلمٍ يُصنع محلّيًّا؟ (ثمنه الأصليّ درهم أو درهم ونصف ويباع بأربعة أو خمسة دراهم). وحتّى تضمن هذه الفئة استمراريّتها تعتبر ممارساتها هذه حقّاً.
وقائمة الخنوشية والتسيّب، والعبث أيضاً، طويلة. ومن دون أن نتكلّم عن الطبقات البرجوازية المخزنية التي تقوم بمثل هذه الممارسات لمراكمة السلطة، نلاحظ أنّ الخنوشية، بشكل عام، اتخذت شكلاً هرمياً، تمارس فيه كل طبقة مجتمعية مغربية حقها من الاستغلال.
وفي الأخير، اجتمعت كلّ هذه الفئات المشكلة للمجتمع المغربي، وخصوصاً بعد تأثّر مدخولات ممارساتها "المشروعة" بارتفاع الأسعار، وبدأت تحتج وتطالب بإقالة رئيس الحكومة الحالي. ولسبب من الأسباب ترى مطالبها هذه مشروعة، وتعتبر احتجاجها حقاً. وإن كان الاستفسار حق أيضاً، فأستفسر: ما الذي حدث للقيم بهذا البلد؟
وهنا يجب أن نطرح سؤالاً آخر: كيف أصبح المغاربة على هذا الانتهاز والتسيّب؟ وأهم من ذلك، ونقلاً عن السيد محمد الكحص، كاتب دولة سابقاً لدى وزير التربية الوطنية والشباب في حكومة إدريس جطو الأولى، إذ قال: "ما الذي حدث لسلطة القانون، سلطة العقل (...) والسلطة التربوية والبيداغوجية بهذه البلاد؟".
بل أكثر من هذا، يجب على المغاربة كافة أن يصارحوا أنفسهم ويسألون: من هو أخنوش حقاً، هل هو نحن أم الآخر؟ و هل في داخل كلّ مغربيٍّ أخنّوشٌ صغيرٌ ينتظر فرصته لممارسة الخنوشية على الآخر، لأنها أصبحت، هي أيضاً، حقاً؟