هل جامعة كولومبيا أقرب إلى غزّة من رام الله؟
أحمد الصباهي
اقتبستُ العنوانَ أعلاه، أثناء قراءتي للحوارية التي أجرتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية مع المفكر الفلسطيني المقدسي، خالد عودة الله، إذ سأل المحاوِر عبد الرحيم الشيخ، عما سمّاه "مستقبل الجغرافيا الفلسطينية الموحدة"، ليجيب عودة الله بدوره "لم تعد مسألة الجغرافيا في هذه المعركة محصورة في حدود فلسطين، ولا سيما في واقعٍ صارتْ فيه صنعاء أقرب من رام الله، فتحريرُ فلسطين كواجب ومنطق للتاريخ العربي الإسلامي لا يمكن إنجازه ضمن رؤية مبنية على منطق الهوية القطرية والتجزئة". (مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 137).
سواء وُفِقتُ إلى فهمِ المعنى أم لا، إلا أنّ هذه الفكرة لم تغادرْ تفكيري. فعلاً، إنّ ما تقوم به صنعاء من دفعِ ثمنِ الحصار والقصفِ ووقوعِ الضحايا بعد الإعلان عن مساندةِ قطاع غزّة عبر توجيه الضربات للسفن الإسرائيلية، بهدف فكِّ الحصار عن القطاع، وصولاً للتصدّي للسفن الأميركية والبريطانية التي قصفت اليمن دعماً للكيان، فإنّ المشهد تكرّر أمامي مجدّداً عندما شاهدت انتفاضة الطلاب الجامعيين في الولايات المتحدة الأميركية، والتي أطلقتْ شرارتها جامعة كولومبيا تحديداً، لتنطلقَ حملة قمع حرية الرأي والتعبير عبر اعتقال وطرد الطلّاب، إلا أنّ هذا لم يُوقفْ الاعتصامات، بل انتشرتْ حمّى التظاهرات والاعتصامات في أغلب جامعات أوروبا، ومنها إلى العالم.
هل يعبّر هذا العنوان عمّا يشعر به الفلسطينيون؟ هل طلاب جامعة كولومبيا الذين يبعدون مئات آلاف الأميال عن غزّة، هم أقرب من الجرحِ الفلسطيني الغائر، من رام الله، لا لـ"رام الله" نفسها، بل لسلطتها المتدثّرة بعباءةِ "الشرعية" المفقودة يوماً بعد آخر، بابتعادِها عن همومِ وشجونِ الشعب الفلسطيني، فهي (السلطة) ما زالت تعيش داخل قوقعةٍ، أو فقاعةٍ، اصطنعتها لنفسها، فقاعة السلطة ومؤسّساتها والمنتفعين منها.
انتشار أفكار "الحرية لفلسطين" وإدانة جرائم الاحتلال والفصل العنصري، والمطالبة بمحاكمته، تمثّل بداية المنعطف نحو هدم السردية الإسرائيلية الكاذبة
طوال الأشهر السبعة الماضية، لم تغادر السلطة الفلسطينية مربّع المواقف الفارغة من أيّ مضمونٍ فعليٍ، يمكن أن يؤدّي إلى تغييرِ أيّ جزيئة من الواقع الفلسطيني الصعب في غزّة، ولم تحرّك مواقفها الشارع في الضفة، بل على العكس تماماً من ذلك، ما زالت تُنسّق أمنياً مع الاحتلال، بل وربّما يدور في خلدها أحلام العودة إلى غزّة من بوابةِ الحكم والسلطة.
أتساءل كثيراً: من أيّ طينة مصنوعة هذه السلطة؟ ألم تُعاين اليد العليا الوحيدة للفيتو الأميركي في مجلس الأمن الدولي، والذي أحبط مشروع العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، ومشروع السلطة بالأساس قائم على هذه الفكرة؟ ألم تسمعوا كلّ مواقف رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، التي اتهمكم فيها "أنكم تعلمون الإرهاب وتمولونه"، وأنتم الذين تنسّقوا أمنياً معه، وهو تنسيق "مقدّس" كما يقول رئيس السلطة محمود عباس؟ ما الذي تبقى لكم إذاً؟
تبقى المناصب، والوزارات، والأجهزة الأمنية، وأموال أميركا والاتحاد الأوروبي.. مجرّد سلطات موهومة إن لم يبق شعب أساسًا. ومؤخرًا، صرّح الرئيس عباس من الرياض في المنتدى الاقتصادي العالمي، أنّه يخشى من خطرِ التهجير في الضفة الغربية، فماذا تنتظرون إذاً، وهل التصريح بـ"الخشية" رَدَعَ أو سيردعُ الإسرائيلي يوماً عن مخطّطاته؟
لماذا اختلف أداء الطلاب في جامعة كولومبيا عن السلطة الفلسطينية؟ ما الذي دفع الطلاب للتحرّك والاعتصام داخل حرم الجامعات وتعطيل الدراسة، والمطالبة بمقاطعةِ الاحتلال بكافةِ السبل؟ وما الذي شاهدوه، ولم تشاهدوه منذ 76 عاماً؟ ولماذا الطلاب، وهم في مقتبل الحياة، ويعدّون أنفسهم لمستقبلٍ واعد، عرّضوا أنفسهم لخطرِ الاعتقال والمحاكمة والطردِ من الجامعة، وأنتم لم تكلّفوا أنفسكم حتى أن توقفوا التنسيق الأمني مع الاحتلال؟ بل، والانسحاب من أوسلو، وسحب الاعتراف بـ"إسرائيل"؟ هل هذا ضرب من الأحلام؟
إنّ من يمثل غزّة وفلسطين هو من لديه الاستعداد لتحمّل تبعات الموقف مع شهداء غزّة، مع أطفالها ونسائها، مع شهداء الضفة، من لديه الاستعداد للاعتقال، والشهادة... وبالتالي، فإنّه ليس فقط جامعة كولومبيا أقرب إلى غزّة من رام الله، بل أيضا اليمن، وجنوب لبنان..
تصبح كلّ القوانين عرضة للضرب بعرضِ الحائط عندما يصل الأمر إلى انتقاد الصهيونية وأفعالها الشنيعة بحقِّ الفلسطينيين
ربّما هناك تشابه بين السلطة، وبين إدارة الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا، التي استدعت الشرطة لقمعِ الطلاب والقيام بحملة الاعتقالات، والتي تشكّل سابقة اعتبرت خطيرة في مجتمعات اعتادت على إبداء حرية الرأي والتعبير، وهو ما كفلته القوانين، لكن كلّ هذه القوانين تصبح عرضة للضرب بعرضِ الحائط عندما يصل الأمر إلى انتقادِ الصهيونية وأفعالها الشنيعة بحقّ الفلسطينيين.
المضحك المبكي، أنّ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، الذي وصف السلطة بـ"الراعية للإرهاب"، لم تشكّل له هذه السلطة قلقاً كانتفاضة الجامعات في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي وصفها بكلّ ما في الوقاحةِ من معنى، وبتدخلٍ سافرٍ في شؤونِ الدول بالتهمة الجاهزة أي معاداة السامية، في محاولةٍ للتخويف ومصادرة الرأي، ومطالباً فوق ذلك بإنهاء هذا التحرّكات.
يعلم نتنياهو أنَّ خطورة الاحتجاجات تكمن بأنّها تتم على يدِّ فئةٍ شابةٍ متعلّمةٍ، لا يمكن رشوتها والتحكّم بها، وهي جيل المستقبل، الناخب للسلطة في أميركا والغرب. وعليه، فإنّ انتشار أفكار "الحرية لفلسطين" وإدانة جرائم الاحتلال والفصل العنصري، والمطالبة بمحاكمته، تمثّل بداية المنعطف نحو هدمِ السردية الإسرائيلية الكاذبة كـ"ضحية"، وبداية تشكّل السردية الفلسطينية، من "الإرهابي" إلى الفلسطيني "المقاوم".
لقد خاطبت فصائل المقاومة العالم عبر "طوفان الأقصى" فحظوا باحترام العالم، وخاطبت السلطة الفلسطينية العالم بمواقفها المترهلة، فلم يعرها أحد اهتماماً، ولم تحرّك أحداً، وانتفض الطلاب في جامعة كولومبيا فحرّكوا طلاب العالم، فمن هو أحق بالقرب من غزّة، طلاب جامعة كولومبيا أم رام الله؟