...وإلا كل واحد على بيته
"شو في عمي؟". يتوقف الباص المتهالك وسط زحمة سير خانقة مقابل الثكنة العسكرية، فيستدير ركابه لدى تساؤل السائق، إلى الجهة التي يَنظر إليها، وإذ بحشد صغير من الناس من جهة، ورجال الشرطة من جهة أخرى، وقد نُصبت بين الفريقين كاميرات تلفزيونات البثّ المباشر، ما عطّل السير في شارع فردان البيروتي الأنيق.
رجال ونساء تجمهروا مقابل الثكنة، وميكروفونات ممدودة لتسجيل هتافاتهم المطالبة بالحرية لمعتقل ما، ومراسل يستصرح أحدهم، وقد بدا عليه الغضب، فانتفخت أوداجه واحمرّ وجهه وارتفع صوته، فوصلت إلينا نتفٌ من كلماته الغاضبة، في حين حال رجال قوى الأمن بين الجمهرة والسيارات المارة.
"آه..."! يقول أحد الركاب الشباب مستدركاً: "على الأرجح هذا اعتصام من أجل إطلاق سراح الشاب الذي أوقفته الشرطة عندما كان يحتج أمام القصر الحكومي وقفز فوق الحاجز الأمني"، ويضيف "هو من أهل شهداء انفجار المرفأ ويطالب بالكشف عن الحقيقة خلف التفجير".
يركّب السائق "بروميير"، وهو يدحرج الباص ببطء متقدماً بين السيارات، فقط بضعة سنتيمترات، بالرغم من المسافة التي فُتحت أمامه، دون أن يحيد بنظره عن المشهد، كمن لا يريد أن يكمل طريقه لرغبته ألا يضيّع عليه أيّ تفصيل. ثم يردّ على الراكب الشاب عبر المرآة، قائلاً "آه تذكرته. كان في نشرة الأخبار بالأمس.. فلان الفلاني أليس كذلك؟ لكن "جماعته" يحتجون عادة أمام العدلية (قصر العدل في بيروت) لم انتقلوا إلى هنا اليوم؟". قالها كمن يريد من مستمعيه أن يفهموا أنه على علم بمجريات الأمور كون خطّ سيره يمر أمام قصر العدل. يجيبه راكب آخر من الخلف "صحيح، عادة يتظاهرون هناك لكنهم اليوم نقلوا الشاب إلى هنا من أجل إكمال التحقيق معه".
تعلّق سيدة عجوز بتعاطف: "أكيد عم يخبطوه (يضربوه) مردفة مداخلتها بدعاء "الله ينتقم منهم، الله يلعنهم شو ولاد حرام".
يهزّ السائق الستيني برأسه يمنة ويسرة، مستخفاً لسبب ما على الرغم من تراجيدية القصة. فأهالي ضحايا انفجار المرفأ، وبسبب الثقب الأسود المسمّى لبنان، كون أي حقيقة تختفي فيه في أي قضية عامة، ما زالوا حتى اليوم لا يعرفون فعلياً ما الذي حصل لأبنائهم، وذلك على الرغم من مضي أكثر من سنتين على الانفجار الذي دمّر مرفأ بيروت ومحيطه بشعاع تجاوز العشرة كيلومترات، والذي اعتُبر أكبر انفجار غير نووي في التاريخ.
أهالي ضحايا انفجار المرفأ، وبسبب الثقب الأسود المسمّى لبنان، ما زالوا حتى اليوم لا يعرفون فعلياً ما الذي حصل لأبنائهم
يتقدم السائق بالباص بضعة أمتار ثم يعود إلى "البث"، وقد لوت فمه ابتسامة استخفاف مستفزة، موجهاً كلامه للراكب الأول "شو بتنفع المظاهرات؟ مفكرين إنه رح يطلع معهم شي يعني؟ أعوذ بالله! ولا ممكن" ثم يضيف: "من يهمه؟ هل يظنون أنّ الزعماء يكترثون أو أن لديهم مشاعر مثلاً؟" ثم يضيف مستنتجاً الردّ على تساؤله بنفسه "آخر همهم حبيبي! ما بتروح إلا على اللي راح".
يستفز كلامه الشاب، فيردّ عليه بما معناه أنّ الناس سيحاسبونهم وسيبقون في الشارع حتى إطلاق سراح الشاب المعتقل "غصباً عن رقابهم".
يهزّ السائق برأسه، ويجيب بلهجته الشمالية "بيطلعوه من السجن، أنا معك. مش مشكلة؟ لكن.. وبعدين؟ مش كان بالأول عم يتظاهر لأنه بدو الحقيقة؟ أيه؟ شو صار؟ كان بدو الحقيقة صار بدو يطلع من الحبس".
يسكت الشاب وقد بدت ملامح الغضب على وجهه، وكأنه لا يريد استئناف الحوار مع هذا "السائق الجاهل" الذي يمثّل نمط خطاب الكثير من اللبنانيين اليائسين من التغيير أو المتقاعسين عن المطالبة به. فيستأنف السائق كلامه متجاهلاً، لكنه هذه المرة يوّجه كلامه لي، أنا الجالسة بقربه "اسمعيني يا ستنا: سأحكي لك قصة قديمة. من زمان في بلد من البلدان (بلا ما نسميّه) قامت الناس على حاكم ظالم. من هون مظاهرة ومن هون مظاهرة. ونزل الشباب الى الشوارع يهتفون "الله أكبر... الله أكبر"، وكان العسكر يركض خلفهم ويطاردهم وعندما يلقي القبض عليهم يسجنهم ويعذبهم "حتى يقولوا أمان!". ومرّة، رمى أحد هؤلاء المتظاهرين الراغبين بتغيير النظام بنفسه في فرن ليختبئ من العسكر. أي والله كما أقول لك تماماً (يضحك). في يوم من الأيام، سألهم أحد المحققين، وكان على ما يبدو متعاطفاً سرّاً معهم: يا شباب ماذا تريدون؟ قالوا له: نريد أن نعمل ثورة وأن نمنع هؤلاء الظالمين من أن يحكمونا. قال لهم. وكيف ستفعلون ذلك؟ بالصراخ والتظاهر؟ ها نحن نضربكم ونعذبكم والظالمون ما زالوا مكانهم!".
يركب السائق "دوزييم" ويمسح بيده الأخرى أطراف فمه مسترسلاً في الحديث، ثم يضيف "قال لهم المحقق: هلق "الله أكبر" منيحة، ما قلنا شي، بس شو بتأثر؟ لا شيء (يقولها بالفصحى) لكن، إذا كان معها رشّة بارود، هه.. أكيد سيتغير الوضع".
ابتسم وتشجّع للمتابعة: "والله ستنا، أقسم بالله، لا أستوعب: قبل انفجار المرفأ بكثير، منذ أن أكلوا علينا فلوسنا في البنوك، وقطعوا عنا الكهرباء والدواء، واللي ما معه دولار؟ يموت الله لا يردو، إنه يا جماعة: ما التقى "إبن مرا" شبعان من حليب امه، يطقلو شي رصاصة براس شي ظالم؟ ساعتها شوفي كيف بيصيروا يردّوا. وإلا "الله أكبر" حاف؟ ما رح يمشي الحال".
ثم ينظر إلى الشاب الذي كان يسمعه برغم تصنّعه التجاهل، مشيحاً بوجهه جهة النافذة، ويقول له "سمعتني يا عمي؟ الله أكبر.. ورشّة بارود، وإلا كل واحد ع بيته".