وقفة تدبر مع قوله تعالى "فصبر جميل"
عزيز أشيبان
يمثل القرآن الكريم نقطة ارتكاز في العقيدة الإسلامية ويزخر بغزارة المعاني وتدفق الأبعاد المتجدّدة التي تستحق الرقي في التعامل والعمق في التدبر والوقار أمام جمالية اللغة ودقة توظيفها. يظلّ الذكر الحكيم فعالاً ومؤثراً وملتزماً بمقاصد نزوله باستمرار. ومن المؤكد، أنّ القرآن الكريم يخاطب كلّ فرد على حدة ويمنحه شرف المخاطبة والحوار والدعوة إلى التدبر والاجتهاد والتفكر ويرفع عنه الوصاية والجهل والخنوع والتواكل.
في قوله تعالى "فصبر جميل" سحر خاص يستوجب التوقف عنده من أجل التدبر والتفكّر وبناء السؤال، خصوصا مع اقتران كلمتين تتباعدان في الحمولة وتتناقضان في الانطباع الموّلد وتلتقيان من أجل بناء نسق متفرّد وعميق. حقيقة، كلما ذكرت كلمة صبر، تبادر إلى الذهن وجود معاناة، إحساس بالمرارة من تجربة صعبة وفترة عصيبة، ضغوط، صعوبات... تستدعي التحلّي بالثبات واليقظة والوعي بحقيقة الأمر تفادياً لردود فعل آنية وزلات مزاجية وتهوّر ونزوع نحو اليأس.
من جهة أخرى، عادة ما نميل إلى منح قيمة الجمال إلى ما هو ظاهر ملموس تراه الأعين وتستشعره الحواس ويرقى بالذوق، غير أنه في هذا الموضع من الذكر الحكيم، نجد الجمال مقترناً بشيء مجرّد، بقيمة خلقية، بفضيلة مرغوبة يحوّلها إلى واقع ملموس، يبديه السلوك ويعكسه مادياً في تجلياته.
يقترن الصبر إذن بالجمال، ويجد الجمال موطنه في الصبر، ويثري الواحد منهما الآخر بتحقيق الدعوة إلى التماس عمق المعاني والأبعاد. يخاطب قوله تعالى العقول قبل الوجدان، وربما يصنّف الصبر في ثنايا الحكمة والبصيرة والتبصّر، ويقرّ باستقرار ماهية الجمال في الدواخل، وما تبطنه الأفئدة وتصدقه الأفعال. ضمنياً، ثمّة دعوة إلى هندسة وإبداع الجمال في الباطن الإنساني والتعبير عنه من خلال مخرجات السلوك وردود الفعل.
من حكم قوله عز وجل "فصبر جميل"، نركز على فن إدارة الأزمات أيضا. ففي الدعوة إلى الصبر، نرى إلحاحاً على ضبط عناصر الحاضر ومحاولة التحكّم في مجرياته من أجل صناعة المستقبل. إذ قبل التفاعل مع ما يقع من أحداث، يجب ضبط النفس ومساءلتها وإعمال العقل وعدم الانجراف وراء العواطف والغرائز من أجل تحقيق تدبير عقلاني للأزمة، ودراسة كل خطوة لتصريف مخرجات مرضية في المستقبل، وقلب الواقع من الأسوأ إلى الأفضل.
يقترن الصبر بالجمال، ويجد الجمال موطنه في الصبر، ويثري الواحد منهما الآخر بتحقيق الدعوة إلى التماس عمق المعاني والأبعاد
كلٌ يعرّف النجاح حسب قناعاته الشخصية ورؤيته للحياة، ومما لا شك فيه أنّ النجاح لا ينحصر أبداً بين أحضان الإنجازات المادية، بل يتعداها إلى ما هو أبعد وأعمق. وهنا قد تكتنز الدعوة إلى الصبر أهدافا متعدّدة، من أهمها نذكر التماس ثبات الإيمان، وتثبيت أسسه وتنزيه حبّ الخالق عن حب المخلوقات وحسن الظن به وبحكمته وتحقيق التوازن الشخصي بين الشق الروحي والشق المادي والاجتهاد في استدامة الاعتدال بينهما.
كما نتحدث عن حسنات ما يكتسب خلال فترة الصبر من جلد وقوة الشكيمة والعزيمة وتقبّل الواقع والخوض في المواجهة وبناء الشخصية عبر تراكم التجارب، والاستقلالية والابتعاد عن التواكل والتبعية للآخر، والتشجيع على المبادرة الذاتية والتماس مبدأ الأخذ بالأسباب.
لا مناص من الإقرار بأنّ حسن السلوك ينبعث من تعايش القوة الروحية مع الرأسمال المعنوي ويقود حسن تصريفه إلى مشاركة ونشر كلّ ما هو جميل من فضائل القيم ونبل الأخلاق وتشييد مجتمع المعرفة وتنشيط قيم العمل والاجتهاد والارتقاء من أجل الإقلاع والنهضة.
ما أحوجنا إلى تنزيل حمولة قوله تعالى "فصبر جميل" في زمن تسارع الأحداث وتناسل الأزمات وتشابك المفاهيم وغياب الرؤية وتسيد غيوم اليأس والإحباط على المنطقة العربية.