"العنف والمرأة"... ولكن ما الذي كانت تفعله هنالك في تلك الساعة؟ (7)
"ولكن ما الذي كانت تفعله هنالك في تلك الساعة؟".
ما الذي نفهمهُ من هكذا تحريض مبطّن على اغتصاب نِساء لا نتفق معهنّ في طريقة حياتهنّ سوى أنّ المُجرم هنا له معايير إن استوفاها سقطت عنه التّهمة؟
تعتقدُ ضحايا "الخوف من النّبذ" أنّ القانون والتوحش يسقط أمام غُرف النّوم، وأنّ أيّ امرأة يُغلق عليها داخل تلك الجدران الأربعة المُظلمة يحقّ للآخر فعل ما يُريده بها، إنّها ملكهُ، وهذا يكفي لأن يغتصبها أو ينبُذها، أو أنّها مُنحرفة لا يحقّ لها الاعتراض ويُدافَعُ عنها، إنها خاضعة ولا نعلمُ كيف تحولت تلك المساحة إلى "ديب ويب".
وقد رصدت الكاتبة، سوزان براون ميلر، في كتابها "ضدّ إرادتنا" تطوّر القوانين المُتعلّقة بالاغتصاب من اليهوديّة القديمة من خلال القانون البريطاني في العصور الوسطى إلى العصر الحديث، حيث إنّ التّنظيم القانونيّ للاغتصاب بدأ بافتراض أنّ الاغتصاب كان جريمة ضدّ ممتلكات الرّجل. وما زلنا نعيشُ مع عواقب فكرة الاغتصاب هذه كجريمة ملكيّة، لقد نُزع عن النّساء "المُوافقة"، فهي موافقةٌ حتّى وإن كانت ترفُض، رفضها يعكسُ تجاوز قيم القهر المعنويّ، أمّا رفضها كضحية من طرف النّساء أنفسهن فيطرحُ حالة إنكار وجُود "الآخر" المُختلف الذي يُهدّد أمانهم، وهو نوع من تمادي الجريمة في حياة أولئك الذين يساندُون اختطافها عنهنّ، فقط لإنقاذ المجرمين الذّين نُعجب بهم، تتحوّل بعض النّساء إلى جلّاد، وتلك الصّفة التي تبنّتها لا تمنحُها المكانة التّي تطمحُ إليها في عالم الجلّاد الحقيقيّ، إنّها تُحاول التّقرب منه بأن تحمي قيمهُ الوحشيّة، شخصيّة خاضعة حتى لو تبنّت قيم المؤسسة الذكورية، معارضتها للضّحية على أنّها ضحيّة نابع من الخوف والتّرهيب الذي تلقته ثمّ تحوّل لاحقاً إلى حالة من الخوف من النبذ الاجتماعي.
حتى في حالات الاغتصاب لا يحملُ الرّجل لقب مُغتصب بالقدر الذّي سيصاحِب النّساء ولو كن ضحايا
ليس للحقيقةِ مكان سوى السّماء أو القبر، وبين من يُريد إطلاقها ومن يُريد دفنها، تعيشُ الكثير من الحروب التي تظهرُ في النّهاية على شكل قوانين أو أعراف أو تحذيرات أو تهديدات أو وصايا أمّهات، وليس الاغتصاب الذي ينبذه الجميع ظاهرياً ببعيد عن حرب القيم وانتهاكها، لم يستطِع القانون ولا التقاليد والأديان إيقافه أو تخليص ضحاياه من جريمة أن لا تكون ضحيّة خاصة في البلدان المُحافظة التي تسُود فيها سماء العار الغائِمة، وتُدفن تحت أسقُفها أجساد ترتعشُ خوفاً من سماع حكايتها المؤلمة في المحاكم، فقد فتحت الفتيات عينيها على نصائح رسمت حدوداً للأمان.
"أخافُ عليك" هي أعنف جُملة تعيش مع الفتاة منذ صِغرها، بحيث يتأكّد لديها أنّها في حاجة دائمة لمن يُدافع عنها بدل الدّفاع عن نفسها بنفسها، ما سيسمحُ للخوف بالتضاعفِ، الخوف الذي سيستغلُّه الكثيرون لاحقاً، هكذا تتلقّى قواعد الحياة التّي تبدُو وكأنّها انتصار لكنّها في الحقيقةِ ما هي إلّا عجزٌ ثقافيّ واجتماعيّ عن إنقاذ الضّحايا من عودة الاعتداء كتُهمة موجّهة إليهن ما دامت قد تجاوزت تلك النّصائح: لا تذهبي، لا تتأخّري، لا تسيري في الشّوارع المُظلمة، لا تدخلي مكاناً مغلقاً، لا تتحدّثي مع الأغراب، لا تلبسي، لا ترفعي صوتك، وغيرها من اللاءات التي تزيد من نفُوذ الاعتداء المعنويّ بعد الاعتداء الجسديّ، وكأنّها تُبيح ضمنياً مشروعيّة حدوثها خارج ذلك النّطاق، حدود القمع المعنويّ التي تتحوّل إلى مطحنة اجتماعيّة يتسلّط فيها العار ليُصبح الصّمت وسيلة لمواصلة الحياة، وأيّة حياة هذه التي يُمكن مواصلتها مع شُعور الإنسان بأنّه الضّحية والمُجرم نفسهُ؟
أبشعُ معرفة تواجهها الضّحية هي معرفتها أنّها لن تكُون ضحيّة، الهزيمة في الدّاخل تجعلُها تُصدّق ذلك، تعرف الضحية جيداً أنّها شاركت في الجُرم وتستسلم للصّمت وللعقاب، الضحية ليست ضحيّة، فهي ليست مؤمنة بذلك، وجرى هذا التّعنيف عبر القواعد الأبوية التي ورثتها الأسر، لقد صنعنا حدوداً تنتهي عندها شُروط لقب الضّحية، إذا ارتدت فستاناً قصيراً يحقّ اغتصابها، وإذا تأخرّ الوقت وهي خارجاً يحقّ اغتصابها، وإذا دخلت غُرفة نوم أحدهم يحقّ اغتصابها. إن مجمُوعة التسيب الاجتماعي في تقنين العُنف تعُود لمواصلة تلك الأحكام سحق أعناق الضّحايا، وبدل أن يُعارض فعل كالاغتصاب مهما كانت أحواله، قام المُجتمع بوضع شروط للموافقة عليه ضمنيّاً، ما يجعل أمر الدفاع عن المجرم من طرف النّساء تحصيل حاصل، ما الذي أخذها إلى هنالك؟
من هنا يتمّ تحويل الذّنب من المُغتصب إلى الضّحية، فمهما كنتِ ضحيّة في الأخير سينسى الناس المُغتصب ويتذكّرون اغتصابك، سيمحو اسم المُغتصب من الحكايات الدّائرة بطريقة سحريّة ويظلّ اسمك "غير الصالحة" "الملوثة" يدور في صالونات الحلاقة والحمّامات والجنائز ومقاهي الحيّ الشعبيّة، حتى في المساجد قبل أن يُرفع الأذان سيختلي بحكايتك النّاس، لماذا؟ لأنّ النساء على مرّ التّاريخ حملن عاراً ليس لهنّ دخل فيه، إنّهن "بنات مجرم"، "أخوات متعاطي" و"مغتصَبة"... إن كتفهنّ مليئة بحوادث ارتكبها الآخرون، فيما الرّجال يمكنهم في كثير من الحالات الخلاص من أخطاء الآخر، حتّى في الاغتصاب لا يحملُ الرّجل لقب مُغتصب بالقدر الذّي سيصاحِب النّساء، ولو كنّ ضحايا، فتعيش بعدها داخل مساحة مُغلقة بإحكام حتّى لا تفلت منها بفهم ضرُورة أن تستعيد مكانتها كضحية، تستمرّ هكذا في إلقاء اللّوم على نفسها، لوم مستمر ينتزعُ منها أيّ اعتراض، لقد تحوّلت إلى خادمة تكفيراً للاعتداء عليها.
الإنسان إذا توحّش باستطاعته تحويل مكامن الخصُوصيّة الإنسانية إلى وسيلة للنّيل من مثيله الإنسان، حتى أمسى الاغتصاب أداةً يقوُدها الدّافع الوحشي، دافع السعّي إلى فرض الوجُود بإذلال الآخرين
قبل 3000 سنة سجّل التّاريخ في برديّة فرعُونية شكوى قدّمت عن الاغتصاب في مدينة طيبة عاصمة مصر القديمة، ويُسرد فيها جريمة "بانيب الأكبر" مع امرأة تُدعى "يمينواو" لدرجة نزع ملابسها وانتهاكها عند أحد الجُدران. استُنكر الفعل الشّائن عند الفراعنة مثلما استنكره السُّومريون والبابليون، ولاحقاً العالم أجمع، لكن من هو هذا العالم؟، أليس العالم نفسه من استخدم اغتصاب النّساء كوسيلة للعقاب في حروبه؟
لم يقتصر الاغتصاب على أنّه جريمة جنسيّة، بل هو أوسع من هذا، فيُمكننا اعتباره إحدى أقذر الجرائم السّياسية التّي تورّط فيها العالم، فالإنسان إذا توحّش باستطاعته تحويل مكامن الخصُوصيّة الإنسانية إلى وسيلة للنّيل من مثيله الإنسان، حتى أمسى الاغتصاب أداةً يقوُدها الدّافع الوحشي، دافع السعي لفرض الوجُود بإذلال الآخرين. وهل تُوجد ضحيّة أفضل من النساء لمثل هكذا انتقام؟ المرأة التّي ربطها المُجتمع بالشرف قدّمها كنقطة ضُعفه للغريم، كلّنا يذكر ما وقع سنة 1937 خلال "أحداث نانجينغ"، حيث استمر الجُنود اليابانيون باغتصاب الصّينيات على مدى ستّة أشهر مُتواصلة، أو ما حدث لنساء سراييفو في معسكر أومارسكا من طرف الصّرب، أو روندا في أثناء الحرب الأهليّة... أين جرى إحصاء 250 ألف امرأة تعرضن للاغتصاب، أو نظام الحُكم في الصّومال الذي اعتمد الاغتصاب وسيلةً لكسر نفوُس سكّان المناطق المتمرّدة، وما فعلته القوات الإثيوبيّة بنساء العاصمة مقديشو؟ وفي الأرجنتين أيضاً اختطفت أكثر من 10000 امرأة من طرف الحكم العسكري، واغتُصبن داخل المعسكرات، وهناك أيضاً اغتصابات القوات النازية، وماذا عمّا فعلته أميركا بنساء فيتنام؟ أو ما فعلته فرنسا بنساء أفريقيا؟
يا إلهي! لا أستطيع التوقف عن الإحصاء، كلّ هذه البشاعة حتى تعيش النّساء، جميع النّساء، في حالة خوف أبديّة.